اتصل بنا
 

(لا تكذبي) تحمل دعوة لتحرير العقول

نيسان ـ نشر في 2018-03-01 الساعة 18:42

نيسان ـ

في ستينيات القرن الماضي كتب الشاعر المصري كامل الشناوي قصيدة 'لا تكذبي' التي غناها عبد الحليم حافظ ونجاة ومحمد عبد الوهاب، كل على حدة. وهي قصيدة عاطفية تتناول رد فعل حبيب مخدوعاكتشف خيانة محبوبته له. فيقول لها:

'لا تكذبي. إني رأيتكما معا
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبةٍ فأنكر وادَّعى'

ولكن القصيدة تحمل في طيات كلماتهاما هو أبعد من ذلك وأعمق وأَعَّم إذا ما أخذنا معناها المطلق في مجُمله ومن منظور إنساني واسع.

عنوان القصيدة، 'لا تكذبي'، يعني أننا بصدد فعل الكذب، وهو فعل ليس محصوراً بين أركان الجانب الظلامي من الحب الرومانسي فحسب. فالكذب فعل يرتكبه الكبير والصغير، والطيب والخبيث، في ظروف مختلفة وبدوافع شَتَّى؛ كما أن الحب الرومانسي ليس بتلك العلاقة الإنسانية النبيلة التي ليس كمثلها بين العلاقات الإنسانية الأخرى. فالبشر هم البشر في كل مناحي الحياة، وتدور علاقاتهم ببعضهم البعض في ذات الفلك الذي تحكمه ذات الشهوات والرغبات والميول، بما ينطوي عليه ذلك من صراعات بين إراداتهم المختلفة. ففي الحب الرومانسي أيضاً مساحات من الغش والخداع والكذب والنفاق. بل في الحب الرومانسي أيضاً ما يمكن أن يفرض إرادة هذا على ذاك كما فيه ما يجعل هذا مستغلاً لذاك.

حقبة الستينيات التي كتب الشاعر فيها القصيدة، حقبة مهمة في تاريخ مصر. ودراسة مصر في تلك الفترة من شأنها أن تُفيد من يريد فهم الواقع المصري في أزمنة أخرى كثيرة، بل ومن يريد أن يفهم طبيعة العلاقات بين الحكام الشموليين ومحكوميهم بوجه عام. فمصر الستينيات كانت تعج بتلك العناصر الخفية والظلامية التي يفرض بها الإنسان سيطرته على غيره من البشر، أفراداً كانوا أو مجتمعات.

لا أعتقد أن كامل الشناوي أراد أن يجعل في قصيدته إسقاطاً سياسياً، إلا أنني أرى في مجمل مفرداتها تعبيراً بليغاً عما عاشه مصريو الستينيات في جو مفعم بعوامل خلقتها محاولة حاكمهم ومعاونيه السيطرة على عقولهم واقتيادها أينما أرادوا وحسب رؤيتهم هم. فلقد كان ذلك هو زمان التعبئة المعنوية والإعلام الموجه والاصطفاف خلف القائد، صائباً كان أو مُخطئاً، ظالماً كان أو منصفاً. ولكن المصريين كانوا في ذلك الوقت حديثي الانتقال من نظام ليس من المبالغة وصفه بالملكية الدستورية. ومن ثم كان العقل الباطن الجماعي للمصريين يذكر جيداً أيام الديموقراطية وحرية الاختيار وحرية التعبير وإعلاء لغة العقل على لغة العاطفة. وأعني بذلك أن مصريي الستينيات كانوا يستطيعون التمييز بين ما كان يأتيهم في طيات الخطاب ذي الأغراض الخفية وحقيقة ما يدعوهم إليه، وإن كان ذلك عبر فطرتهم وحدها. فهم كذلك دائماً، يعرفون ويصبرون ويتجاهلون إلى حين.

وكذلك بطل القصيدة، إذ كان يشك في محبوبته ويتجاهل شكوكه إلى أن كشف خداعُها عن نفسه، إذ رآها صاحبنا مع محبوب آخر، فلام نفسه بدلاً من أن يلقي عليها هي باللوم، قائلاً:
'وتطل من رأسي الظنون تلومني
وتشد أذني
فلطالما باركت كذبك كله
ولعنت ظني'

والمعنى هنا عميق بليغ. فما يفصل بين نجاح الكاذب وفشله في فعلته هو مدى تطور إدراك المكذوب عليه. وفي حالتنا تلك، كان إدراك المكذوب عليه – بطل القصيدة – انتقائياً، أي أنه كان يدري أن شيئاً ما يدور ولكنه تجاهله بفعل العواطف التي كانت تربطه بمحبوبته، مُشاركاً إياها بذلك في الكذب عليه. ولذا لامته الظنون لمباركته كذبها.

ولا تختلف الظروف الإدراكية بين الفرد والمجتمع كثيراً. فالإدراك الانتقائي يُصيب كليهما، مثلما يصيبهما كذلك الوعيالزائف. والأخير هو نتاج نشأة المرء تحت ظروف ما تُعَرِّضُه لكل ما يُشَكِّلُ الإدراك من تربية وضغوط حياتية وجو عام يحيط به داخل مجتمعه على نحو قد يُزَيِّف الواقع أمام عينيه. ولكن ثمة من يُحَطِّمون هذا الحاجز المجتمعي الذي تبنيه الدولة في الأنظمة الشمولية طامحةً في فرض سيطرتها على عقول مواطنيها، مثلما تبنيه أيضاً الشركات الكبرى لضمان ابتعاد أعين المواطنين عما يفعله رأسالمال بمقدراتهم. والذين يُحَطِّمون حاجز الوعيالزائف من مفكرين وساسة ومواطنين واعين هم الصفوة الحقيقة لأي مجتمع، فهم محرروه.

عندما تفرض الحقيقة نفسهادافعةً بطل القصيدة ليتحرر من إدراكه الانتقائي، وعندما يُحَطِّمُ حاجز الوعيالزائف، يواجه محبوبته بضعفها رغم نجاح كذبها، فيقول:
'كوني كما تبغين
لكن لن تكوني
فأنا صنعتك من هوايَ ومن جنوني
ولقد برئت من الهوى ومن الجنونِ'

تُهدي الحقيقة نفسَها أحياناً للفرد، فتضعه أمام خيارين، إما أن يُغرِقَ في خداع نفسه وإما أن يختار مواجهة الواقع بمرارته وبما يحمل من تحديات. أما المجتمع، فآليات حياته تعمل على نحو مماثل لذلك. فالتاريخ يسير ببطئ على طريق ليست مستقيمة، فهو يتقدم إلى الأمام أحياناً ويعود إلى الخلف أحياناً أخرى، ولكنه في واقع الأمر يسير بخطى ثابته. فإن صَدَّقَ مجتمع ما أكاذيب من يسيطرون عليه، لا يعني ذلك أنه سيبقى مُصَدِّقاً. وغالباً ما تتبدل الأمور ويَكّفُ المجتمع عن المشاركة في كذب من يُزَيِّفون وعيه قائلاً: 'أنا صنعتكم من هوايَ ومن جنوني، ولقد برئت من الهوى ومن الجنون'. وما أدراك ما معنى أن يُشفي مجتمع بشري نفسه من الهوى ومن الجنون.

نيسان ـ نشر في 2018-03-01 الساعة 18:42


رأي: م.حاتم يونس

الكلمات الأكثر بحثاً