اتصل بنا
 

"فضل" الإمبراطورية علينا

نيسان ـ نشر في 2018-01-29 الساعة 15:13

نيسان ـ

لم تمت الإمبراطوريات الاستعمارية بانسحاب 'آخر' جندي من 'أملاكها' السابقة، ولكنها تحولت إلى 'شكل آخر'. وعندما نقارن الإمبراطورية بالرأسمالية، باعتبارها أعلى مراحلها (ربما كان يقصد آخرها) بحسب لينين، فهي لم تمت قطعاً. لم تهزم الرأسمالية، ولم تترعرع 'بذور فنائها' التي تحملها في داخلها، إلى حد القضاء عليها. لقد أثبتت الرأسمالية أنها كالأفعى القادرة على تغيير جلدها. تغيَّرَ جِلْدُ الأفعى ولكنها بقيت أفعى. القدرة على اللسع هي نفسها، والسم هو ذاته. انتهت الإمبراطوريات، بالمعنى الفيزيقي للكلمة، لكن مفاعليها لم تنته. وما أحدثته من جراح في 'أملاكها' السابقة لم تندمل. لا تحتاج آثار هذه الجراح إلى نبش وتنقيب. فها هي كل تلك البلدان التي تعرّضت للاستعمار، خصوصا طويل المدى، لا تزال غير قادرة على استرداد ذاتها بعد عقودٍ على انسحاب آخر جنود الإمبراطورية من تلك البلدان. المثال الأفريقي يكفي. أفريقيا قارة منكوبة بكل معنى الكلمة. لم يبق وباء لم يضربها في ظل أنظمة ما بعد الاستعمار. هذا الفشل الذريع في الاستقلال والتنمية واسترداد الذات في أمكنة الاستعمار السابقة جعلت المقارنة ممكنةً بين الحياة في ظل الاستعمار والحياة في ظل الاستقلال والدولة الوطنية.
غير أن هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن هذا الفشل السياسي والاقتصاد والتردّي الحياتي، على غير صعيد، ما هو إلا نتيجة تكاد تكون حتمية لجذور الاستعمار السامة.
أي شيء جيد صنعه الاستعمار؟ وهل كان عملاً شريراً أم خيِّراً؟ هذا ليس نقاش المُسَتعْمرين. بل نقاش النخب التي احتلت بلادها نصف الأرض. صحا ورثة الاستعمار، الآن، على هذا العمل العنفي الكبير الذي سيطر، بكل أشكال القوتين، المادية والمعنوية، على شعوب بعيدة عنهم آلاف الأميال، وراحوا يستعيدون الاعتبار 'الأخلاقي' لجيوش بلادهم. يناقش الكاتب الهندي البريطاني، كنان مالك، هذه 'الصحوة' في مقال مهم له في 'نيويورك تايمز'، ويتصدّى للتمييز الذي يرفعه المدافعون عن الإمبراطورية البريطانية، في وجه التاريخ الحقيقي للجرائم التي قامت بها هذه الإمبراطورية في أمكنة استعمارها، طويلة المدى، وبين جرائم إمبراطورياتٍ وحشيةٍ أخرى، مثل بلجيكا. أي فرقٍ بين أفعال المستعمرين البريطانيين والبلجيك؟ لا فرق تقريبا. هذا ما يخلص إليه مالك. فإذا كانت فترة حكم الملك البلجيكي، ليوبولد الثاني، أجهزت على نحو عشرة ملايين أفريقي، خصوصا في الكونغو، فإن بريطانيا كانت مسؤولةً عن معظم تجارة العبيد، حتى بعدما سنَّ مجلس العموم البريطاني قانوناً يحرّم تجارة العبيد. السفن التي كانت تنقل الأفارقة المستعبدين إلى الأميركيتين كانت بريطانية. التجار الكبار وراء هذه الفعلة الوحشية كانوا بريطانيين. ملايين البريطانيين عاشوا من تجارة العبيد. كانت التجارة مربحة إلى درجة امتنعت النخبة السياسية والثقافية والدينية البريطانية عن إدانتها. عبد بين خمسة كان يموت في الطريق إلى أراضي المستعبدين في الأميركيتين. ملايين الأفارقة اختطفوا من بلادهم بوحشية، ونقلوا على متن السفن إلى 'العالم الجديد' للعمل، في ظروف همجية، في مزارع التبغ وقصب السكر. هل هذا أقل وحشيةً مما فعله البلجيك، في الكونغو، أو الفرنسيون في الجزائر؟
يتساءل مالك: لماذا هذه الصحوة التي انطلقت من قلب الجامعة البريطانية والمنابر البحثية 'الرصينة'؟ يجيب: قد يقول قائل 'البريكست'. الخروج المأمول لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستعادة بريطانيا نفسها. لكن هذا لا يقنع مالك. كلا، يقول. الأمر يعود إلى نوع من الحنين البريطاني إلى أزمنة الإمبراطورية. فماذا نسمي المواد الفيلمية والمسلسلات البريطانية التي تستعيد أيام الإمبراطورية في الهند، وتندرج تحت مسمى 'راج فيكشين'؟ هذه الصورة الوردية للهند، تحت العلم والبندقية البريطانيين، ليست سوى حنين لتلك الأيام، بحسب مالك. ولا يبدو أن إعادة الاعتبار للإمبراطورية تقتصر على دوائر أكاديمية فقط، بل يتعدّاه إلى الجمهور العريض. ففي استفتاء للرأي قال نحو 44% من البريطانيين المستفتين إن الإمبراطورية 'أمر يدعو إلى الفخر'.
نصيبنا من الإمبراطورية البريطانية كبير. انسوا 'الانتداب' على العراق والأردن واحتلال مصر. هذا ربما أقل أثراً مما حصل في فلسطين. لقد سرقت 'عيني عينك'، كما يقول المثل. جرّدت من أهلها واسمها وتاريخها و'أعطيت' إلى 'شعب' آخر. صارت فلسطين تسمى إسرائيل. هذا بـ 'فضل' الإمبراطورية البريطانية. هذا هو 'خيرها' علينا!

نيسان ـ نشر في 2018-01-29 الساعة 15:13


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً