اتصل بنا
 

الحاجة إلى حركات جديدة عالمياً ومحلياً

نيسان ـ نشر في 2018-01-21 الساعة 13:48

نيسان ـ بذل مفكرو أوروبا، منذ القرن السادس عشر، جهدا كثيرا في البحث عن أفضل السبل لزيادة ثروات ممالكهم وحكوماتهم، وتمحورت النقاشات على إيجاد أفضل الطرق لإدخال الثروات إلى خزينة الدولة. ومنذ ذلك العهد، كان بديهياً أن إحدى أكثر المسائل الأيديولوجية أهميةً في الاقتصاد الرأسمالي أن على كل دولة الوصول إلى مستوى دخل وطني مرتفع. وكان يُعتقد أن هذه النتيجة ثمرة عمل واع وعقلاني ومتوافق مع فكر الأنوار، وهو حقيقة التقدم الإنساني والنظرة الغائية للتاريخ الذي كانت تجسده. وقد شكل العام 1917 انعطافاً أيديولوجياً في تاريخ العالم الحديث، فقد ألقى فيه الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون خطابه الذي أعلن فيه الحرب على ألمانيا، وقال فيه 'يلزم العالم أن يكون مكاناً آمناللديمقراطية'. وفي العام نفسه، اقتحم البلاشفة قصر الشتاء باسم ثورة العمال. ووولدت الثنائية الأيديولوجية التي وضعت الويلسونية في مواجهة اللينينية في ذلك العام. ولكن المسألة الأساسية التي سعت كلتا الأيديولوجيتين إلى حلها هي الاندماج السياسي لأطراف المنظومة. ومن أجل إنجاز هذا الاندماج، اعتمدت الأيديولوجيتان طريق 'التنمية الوطنية'، وأن خلافهما كان بخصوص الطريق السليم لبلوغ الهدف. وعلى هذا الأساس، نمت الويلسونية واللينينية في مذهبين متنافسين من أجل كسب وفاء شعوب مناطق الأطراف، ولكنهما كانتا تشددان، في دعايتهما، على ما يفرق بينهما، لأنهما كانتا في حالة تنافس. ولكن إذا فحصنا الحقائق الداخلية، يتبين أن الاختلاف، سواء في ميدان السياسة أو في ميدان الاقتصاد، كان أقل بكثير مما تقول به النظرية أو الدعاية. وكان الإيمان المشترك في أن 'التنمية الوطنية' ليست فقط ممكنة، ولكن ذات 'النزاعات الشديدة بالكاد تبدأ، والسنوات المقبلة ستكون مرحلة تحولاتٍ عميقةٍ في المنظومة' أهمية ملحة، حيث عُرفت في كل مكان كما لو أنها العملية التي سوف تسمح أخيراً 'باللحاق وتدارك التأخر' الذي تعاني منه دول الأطراف، ويكفي أن يبدأ بتنفيذ التدابير السياسية السليمة الذين يمسكون بزمام أمور الدولة حتى تتحقق المهمة. وغدت التنمية بعد عام 1945 الشعار الفكري الجديد في جامعات العالم، وكان أن أعد في سنوات الخمسينات نموذج ليبرالي 'نظرية الحداثة'، كي يلاقي ويقف في وجه نموذج ماركسي معارض وواعظ بمعارضة التبعية، أعد في الستينات، وباتت 'النزعة التنموية' شعار اللحظة، وحظيت بإجماع عالمي على شرعيتها وضرورتها التي لا مفر منها.
صدمتان كانتا بانتظار هذا الإجماع، الأولى ثورة العام 1968، والثانية كانت الركود الاقتصادي العالمي لسنوات السبعينات وصولاً إلى التسعينات. فثورة 1968 خرقت الغشاء الأيديولوجي، وظهر الجرح المفتوح في الاستقطاب شمال ـ جنوب بكل اتساع. ولم يستطع طب 'السوق' الذي اعتبر الوصفة المثالية للخروج من التردّي الاقتصادي لبلدان الأطراف أن يُخرج البلدان التي اتبعته من مأزقها. وبعد كل حساب، لم تخرج الغالبية العظمى من بلدان الأطراف التي التزمت السوق من أزمتها إلى أوضاع أفضل.
وتستحق قصة فترة 1917 ـ 1989 الرثاء لانتصار الهدف أو الغاية الويلسونية ـ اللينينية بحق الأمم في تقرير مصيرها، فخلال هذه الفترة تم نزع الاستعمار عن جزء كبير من العالم. ولكن الإشكالية الراهنة الأكثر إلحاحاً التي ولدتها تلك المرحلة هي كيف يمكن إغلاق 'صندوق باندورا' القوميات المتناهية في الصغر، حيث تطالب كيانات أصغر بحقها بالوجود بوصفها شعوباً تستفيد بالمحصلة من حق تقرير المصير. كما أن ورقة التوت سقطت عن إمكانية 'التنمية الوطنية' التي اعتمدت عقودا سابقة، ولم تستطع تهاليل انتصار الديمقراطية وهتافها عام 1989 أن تغطي، ولزمن طويل، غياب أية آفاق جادة لتحول اقتصادي للأطراف داخل إطار اقتصاد العالم الرأسمالي. كما أن الهيمنة الأميركية على المنظومة وضعت العالم الثالث في أوضاع صعبة، خصوصا وأن الصراعات والاضطرابات المقبلة ستكون متولدة من اليأس أكثر من كونها متولدة من الأمل بالمستقبل. وإذا كان صحيحا أن العالم الثالث كسب المعركة السياسية الرئيسة، ووصلت عملية نزع الاستعمار إلى كل مكان في الستينات، إلا أن المرحلة الثانية (التنمية الوطنية) فشلت فشلاً ذريعاً.
تقود المتغيرات التي يشهدها العالم من انطواء الشمال على نفسه، بسياسات انعزالية تقودها الولايات المتحدة بسياسات دونالد ترامب الشعبوية، ما يولد مزيدا من التصدعات في الجنوب. ويخلق مسارا هابطا في الجنوب من المؤشرات الاجتماعية، تجعل أوضاع هذه البلدان أكثر صعوبة. فهذه الدول التي نجحت في الحصول على تقرير المصير، فشلت بإنجاز التنمية الوطنية. وفي ظل هذه الظروف، ستذهب دول الجنوب إلى ثلاثة خيارات: الأول، ثورات السخط الآتية من فقدان الأمل. الثاني، التوغل في الحروب الهوياتية، من خلال صراعات تملك إمكانية استمرارها نمط حياة ونمط إنتاج تعيش الأطراف المصارعة من اقتصاده. الثالث، الهجرة غير الشرعية إلى دول الشمال.
السؤال المهم في هذه الأوضاع، هل هناك إمكانية لولادة حركات تغيير جديدة ومسلحة 'العالم الذي نعيش فيه سيشهد صراعا متواصلا وضارا ومجهول النهاية في أرجائه' باستراتيجيات جديدة وبرامج جديدة قادرة على إعادة زرع الأمل من أجل مستقبل أفضل، تملك أدوات لحل صراعات كارثية كثيرة نشهدها، والمتوقع المزيد منها في المستقبل القريب؟
ليس هناك ما يرجح مثل هذا التحول، في ظل عدم التكافؤ بالمعنى الاقتصادي، وفي ظل صراع متوقع لبداية منافسة جديدة من أجل الهيمنة على العالم بين المراكز المتقدمة. ويترافق هذا في ظل اختفاء الأيديولوجيا، بوصفها المبرّر الأخير لنزاعات الدول، ما يزيد من ضعف الأمم المتحدة وقدرتها على التدخل. كما أن آليات الصراع على الهيمنة ستعمل ليس على نشر حروب محدودة بين الشمال والجنوب فحسب، بل وحروب جنوب ـ جنوب في ظل الانضواء تحت التجمعات المحتملة، لكن هذه النزاعات لن تشهد حلاً جدياً، والتدخل الإنساني لن يتجاوز إرسال وحدات عسكرية هنا وهناك. ولكن، في أغلب الأحيان، سيكتفي العالم بدور المتفرّج السلبي على صراعات الجنوب المرعبة، كما شاهدناه يفعل في سورية وليبيا والصومال.. وغيرها.
النزاعات الشديدة بالكاد تبدأ، والسنوات المقبلة ستكون مرحلة تحولاتٍ عميقةٍ في المنظومة. والعالم الذي نعيش فيه سيشهد صراعا متواصلا وضارا ومجهول النهاية في أرجائه، راسماً صورة سوداوية للمستقبل، ما لم تولد حركاتٌ جديدةٌ عالميةٌ ومحليةٌ تملك إجابات عن الأسئلة الملحة التي يطرحها واقع اليوم المضطرب. مشاركة

نيسان ـ نشر في 2018-01-21 الساعة 13:48


رأي: سمير الزبن

الكلمات الأكثر بحثاً