اتصل بنا
 

ليكن هذا واضحاً

نيسان ـ نشر في 2017-11-27 الساعة 15:26

نيسان ـ

ليكن هذا واضحاً منذ البداية: إن أي تساؤل، تشكيك، كلام رخو حول جريمة مسجد الروضة المروِّعة هو تغطية على الجريمة النكراء. سمعت أناساً بلا أي شعور إنساني، بلا انتماء حقيقي لتراب مصر، يقدِّمون هجاء النظام المصري على دماء الضحايا. وسمعت، مثل هؤلاء، يقولون إن النظام هو 'المستفيد' الوحيد من هذا 'العمل'. وسمعت، أسوأ من ذلك: النظام يقف وراء ما حدث في مسجد الروضة. الذين ظنوا أنهم 'ارتفعوا' إلى مستوى الحدث قالوا: ما حدث جريمة ولكن.. هذه الـ 'لكن'، وما تجرّه بعدها من فذلكةٍ رثَّة، ليست، فقط، تبريراً لما حدث، بل أقرب إلى تبنّي الجريمة نفسها. أمام هول الجريمة، أمام الدماء التي تلطخ أرض المسجد، وتسيل بين أحذية المصلين، ينبغي أن يحضر الأخلاقي والإنساني أولاً. لا سياسة أمام هول هذه اللحظة. لا معارضة، لا موالاة. هذه لحظة فوق سياسية. إنها لحظة أخلاقية بامتياز، خصوصاً عندما نتمعّن في طبيعة 'الهدف': أناس يصلون في مسجد! إنه ليس ثكنة جيش، ليس نقطة أمنية، ليس دائرة حكومية. هؤلاء الذين جندلهم الإرهابيون الجبناء، بكل معنى الجبن والغدر والخسَّة، يقفون بين 'يديْ الله'. هذه حُرمةٌ مضاعفة. لا مكان يمكن أن يلجأ إليه المرء، في الإسلام، أكثر حرمةً من المسجد. المسلمون العاديون، إسلام أبي وأبيك، يعرفون هذا. لكن المسلمين المسيِّسين لا يعرفون هذا. الإسلام السياسي، أياً كانت دعاواه، قادرٌ على تبرير ما لا يبرّر، وأسلمة ما ليس إسلامياً، بالمعنى الإيماني والوجداني. الدين ليس سياسة. إنه أخلاق. ومن يسيِّسه، بأي اسم ودعاوى، يجرّده من أصله، وينزع منه الروحي والوجداني والأخلاقي، ويصبح مثل أي أيديولوجيا أرضية أخرى. هناك تضليل في مسمًّى 'الإسلام السياسي'، فهذا خلطٌ بين ما لا يخلط، ومزجٌ بين ما لا يُمزج بغيره. هذه سياسة صرف تتزيَّا بدثار الدين، ما يجعلها قادرةً حتى على ارتكاب الجريمة في حيِّز ممارسة الدين: المسجد.
أنتقل إلى نقطة أخرى تطرحها الجريمة، ويحضر فيها السياسي من دون لبس. كيف حصل ما حصل في بلد سلطاتُه الأمنية مستنفرة منذ سنين؟ كيف يمكن لثلاثين إرهابياً يستقلون عرباتٍ ذات دفع رباعي، ويحملون أنواعاً شتّى من الأسلحة أن يغلقوا، في رابعة النهار، الطرق المؤدية إلى قرية الروضة، وأن يفتحوا نيرانهم على المصلين، كأنهم في ساحة حرب، من دون أن تلحظهم نقطة أمن، مفزرة جيش؟ أي نظامٍ هذا الذي لا يستطيع حماية مواطنيه؟ من هو الذي لا تطاوله يد الإرهاب في مصر اليوم؟ ربما الرئيس فقط! غيره كل شخص، كل هيئة، كل منطقة بوسع الإرهاب أن يطاولها. في هذا الحيّز، تحضر السياسة وتحضر المعارضة والموالاة. هنا الأسئلة مشروعة. ما أهزل دعاوى الموالين للنظام المصري، أولئك الذين امتلأت بهم الشاشات في اليومين الماضيين، عندما يسألهم مذيع في تلفزيون 'موالٍ' للسيسي. كلهم يقرأون على شيخٍ واحد. كلهم يقولون الكلام نفسه في محاولة فهم ما حصل: سيناء كبيرة، عشرة أضعاف مساحة لبنان، فكيف تمكن حماية كل هذه المساحة؟ أنظروا إلى أوروبا وأميركا اللتين تملكان قوى استخبارية وأمنية أقوى من بلادنا، ولا تستطيعان درء الإرهاب عن أماكنهما العامة؟ هذا غير صحيح. هذا تبريرٌ عاجز. هذا كلامٌ يراد منه رفع مسؤولية حماية المواطنين عن النظام. ثم إن الإرهاب في مصر لا يقتصر على سيناء ذات الستين ألف كليومتر مربع. يد الإرهاب، في مصر، تطاول حتى مراكز الجيش، وتتكرّر، مرةً وعشراً، على النحو نفسه. أما على المستوى السياسي، لا يُدحر الإرهاب بتكميم الأفواه وزج أصحاب الرأي في السجون. دحر الإرهاب، بحق، هو في إطلاق عملية سياسية تعيد الاعتبار إلى الذين فتحوا أفقاً واسعاً للحرية والتحرّر في العالم العربي. دحر الإرهاب لا يكون بتوظيف مزيدٍ من المشايخ وإطلاق لحاهم في الحياة العامة، بل في فتح الفضاء العمومي للتفكير والكتابة والاختلاف، وإطلاق طاقات المجتمع على غير صعيد. دحر الإرهاب لا يكون بالانصياع التام للغرب وإسرائيل والانبطاح أمام صندوق النقد والبنك الدوليين، وقوى الرجعية العربية التي انقضَّت على ثورات الشباب ووأدتها، بقوة المال والإعلام، في مهدها.
يطول الكلام على ما يتوجب فعله لدحر الإرهاب، واستعادة الدين من يد الذين يوظفونه لمآرب سياسية واقتصادية، لكن لا شيء أكثر نجاعةً من الحرية لدحر الإرهاب الذي يترعرع في فترات الظلام السياسي.

نيسان ـ نشر في 2017-11-27 الساعة 15:26


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً