اتصل بنا
 

عماد حجّاج وجرّة الغاز

نيسان ـ نشر في 2017-11-07 الساعة 13:47

نيسان ـ

أجزم أن صديقي، رسام الكاريكاتير عماد حجّاج، عرض على المحقّق تأمينه بجرّة غاز، في ختام التحقيق معه بتهمة 'ازدراء الأديان' قبل أسبوعين، مع كثير من الارتباك الذي يصاحبه عادة، كلما وجد نفسه في موقفٍ رسميّ خارج عفويته وتلقائيته.
وتعود حكاية جرّة الغاز إلى سنوات بعيدة، في إحدى شتاءات عمّان القارسة، يوم غمر الثلج طرقاتها فأغلقها، وحبس الناسَ في بيوتهم، وانحبسنا، نحن رهط من الصحافيين الصعاليك في مكتب صحيفتنا الأسبوعية التي كانت بمثابة بيتنا البديل، فتمدّدنا على المكاتب بكامل جواربنا وسجائرنا وكسلنا.
ومن قبيل مكافحة السأم، اقترحنا على الزميل حجّاج، المتورّط بحب امرأة مستحيلة، لا تعرف عن مشاعره شيئًا، نظرًا لخجله المتأصل في شخصيته حيال الحياة برمتها، أن يبادر بخطوة 'انتحارية'؛ للفت انتباه الحبيبة.
قلنا له: 'هذه فرصتك السانحة، في أجواء الثلج، كي تُشعرها بحبك، قل لها، مثلًا، إن الثلج أجّج فيك الخيال، فرأيت أنكما ترقصان، معًا، فوق بساطه الأبيض'. وعلى غير مألوفه، رأيناه يفور حماسةً، مستحسنًا الاقتراح، وباغتنا حين رفع سماعة الهاتف، وضغط أزرار رقم الحبيبة، فتحلقنا حوله، بانتظار ما ستسفر عنه هذه المكالمة 'الانتحارية'. ثم سرعان ما هبطت دهشتنا إلى ما دون السالب، حين رأينا لسانه ينعقد، ثم ليقول بارتباك، بعد أن وجد نفسه مكشوفًا على أرض المعركة: 'لا شيء، اتصلت فقط لأطمئن إذا كنتم بحاجةٍ إلى جرّة غاز'، وأغلق السماعة وهو يظن أنه أحرز فتحًا عاطفيًا مبينًا. ولا حاجة للقول إن حبيبته تزوجت بعد هذه المكالمة بأيام، ربما هربًا من فكرة الحب كلها.
ضحك الزملاء آنذاك بهستيرية، باستثنائي أنا، بل ارتسمت في ذهني، مباشرة، صورة للزميل عماد، وهو يحمل جرّة غاز، ويغوص في الثلج. وشعرت بأنه نمط من المبدعين الذين لا تعنيهم الرتوش، بقدر ما يحفرون في جوهر الحدث نفسه، ولأن غاز الطبخ وكاز الدفء كانا أكثر ما يحتاجه المحاصرون بالثلج، فقد صدر اقتراحه عن فطرةٍ عفوية، لا عن قناع شمعيّ يسوّر ملامح أشباه المبدعين؛ للتمويه على ذلك النقص الفادح في نتاجاتهم وشخصياتهم على السواء.
لربما كانت تلك المقدمة طويلة، للإعراب عن تضامني مع شقيقٍ مبدع، رافقت مسيرته منذ بداياتها الأولى. وعايشنا، معًا، مرارة البدايات، وإغلاق أبواب الصحف والبيوت في وجوهنا، لكنني وجدتها ضروريةً لكشف جوهر هذا الصديق المرتبك، دومًا، عماد حجّاج.
ولا أدري لماذا عاودني مشهد أسطوانة الغاز ثانيةً، وأنا أتخيل عماد يخضع لتحقيق كبير أمام المدّعي العام بحجم 'ازدراء الأديان'.
هل يعرف، مثلًا، من رفعوا دعوى الازدراء أن عماد لا يعرف معنى الازدراء أصلًا، وبأنهم يعرّضونه إلى 'فجيعة فكرية' تفوق عفويته وبراءته، وأنه، في رسوماته الكاريكاتورية كلها، لم يكن يصدر إلا عن إحساس عميق بالإنسان؟
هل أذنب حجّاج الذي آلمه التفريط بأراض فلسطينية لصالح العدو، حين حمل 'جرّة غازه'، أو 'صليبه' إن شئتم، ومضى مباشرةً إلى منبع المسيحية ذاتها، مجسّدة بتعاليم السيد المسيح الذي يأبى مبدأ التفريط كله، خصوصًا لقومٍ حاربوه ولم يعترفوا برسالته، ليفضح المؤامرة المقنعة بلبوس الدين؟
كنت أتوقع، دائمًا، أن تبطش السلطة التي قضّت رسوماته مضجعها، بعماد حجّاج، وليس المجتمع الذي تلمس همومه بشغاف قلبه، هو الذي يعرف تمامًا ما الذي تعنيه الجيوب الفارغة، والمعيشة المستعصية، لكن ما يؤسف له أن الدعاوى ضد حجّاج لم ترفع حتى اليوم إلا من أبناء مجتمعه، الذين قدّم لهم أهم شخصية كاريكاتورية أردنية 'أبو محجوب'، ويحقّ لنا أن نتساءل عندها: هل غام الفرق بين هراوة السلطة وهراوة المجتمع إلى هذا الحد فتساوتا؟
دعوا عماد وشأنه، أيها القوم، دعوه فهو ما يزال يحمل 'جرّة الغاز' على كتفه، في ليالي الثلج والبرد والقمع، ليعينكم بـ 'أبو محجوبه' على تحمل قباحة هذا الزمن العربي الرديء.

نيسان ـ نشر في 2017-11-07 الساعة 13:47


رأي: باسل طلوزي

الكلمات الأكثر بحثاً