اتصل بنا
 

أحزان الآخرين

نيسان ـ نشر في 2017-09-18 الساعة 15:10

جناح الأطفال في مستشفى صغير في ولاية ساوث داكوتا، وأنهما قدما الدعم النفسي والروحي لأم تعاني من الغربة والقلق بسبب مرض ابنتها الصغيرة.
نيسان ـ

حدث ذلك في جناح الأطفال في مستشفى صغير في مدينة جامعية صغيرة في ولاية ساوث داكوتا، النائية ذات الطابع القروي البسيط. كنت أجلس على طرف سرير صغيرتي التي انتابتها حمّى شديدة، إثر التهاب حلقها، ما جعلنا نهرع بها إلى المستشفى، مرض بسيط عابر يصيب سائر الأطفال بشكل روتيني معتاد، خصوصا أيام الشتاء الباردة المفترض ألا يثير الهلع في نفسي، على الرغم من نصيحة الطبيب بإبقائها في المستشفى، في إجراء احترازي لمراقبة درجة حرارتها، غير أن لحظة الليل المعتمة وأنين الصغيرة الخافت، وشوقي الكبير إلى عائلتي التي كانت تفصلني عنها أميال ومحيطات، وفارق توقيت كبير، وإحساس مرعبٌ بالغربة التي تفتك بالروح على نحو مباغت. في لحظة ضعف وارتباك وعجز ووحدة، انهرت باكيةً تحت إحساسٍ مرير بأنني، في هذه الساعة بالذات، لا أحتاج إلى شيء من الدنيا سوى حضن أمي، يحتوي حزني، ويبعث القوة والأمان في أوصالي المرتعدة، وإلى صوتها الحازم الحنون قائلا: شدّي حالك يمه مش هيك! الشغلة بسيطة، وكلي الله وبكره البنت بتصبح زي القردة!
في تلك اللحظة، أطلت امرأة أميركية، لعلها كانت في الخمسينات من عمرها، بملامح هادئة وصوت دافئ خافت، يصحبها رجل أدركت، فيما بعد، أنه زوجها، رجل أشيب، تفصح ملامحه عن طيبة بالغة. احتضنتي بقوة، هدهدتني كما لو كنت صغيرتها، وظلت تهمس في أذني: كل شيء سوف يكون على ما يرام. لا تقلقي. ظلت ممسكةً بيدي بحنو نادر عجيب. وعندما عرفت أن الأمر لا يتعدى التهابا عابرا في الحلق، قالت مبتسمة مشفقة على قلة خبرتي في الأمومة: من حقك أن تقلقي على الصغيرة، لكنها في أيدٍ أمينة، وعين الرب تحرسها، واستأذنتني أن تصلي من أجل شفاء سريع لابنتي، فوافقت وأنا أعبر عن امتنان شديد، بلمستها فائقة العذوبة، لعلها وزوجها مكثا ما يزيد على الساعة، لم تغادرني حتى تيقنت أنني تمالكت نفسي جيدا، واستعدت توازني تماما، حتى أن أنفاس الصغيرة انتظمت. مضت تلك الليلة العصيبة هادئة رائقة. علمت، في الصباح، أن تلك السيدة الطيبة وزوجها اعتادا أن يجوبا أجنحة المستشفى ليلا بشكل تطوّعي، يعملان على تهدئة روع الخائفين، ويعرضون أية مساعدة بامكانهم تقديمها.. مجالسة مريض مستوحش، الغناء لطفل وحيد حتى ينام.
تذكّرت هذا الثنائي الغريب من الخير الخالص والمحبة المجانية الصافية الذي لقنتني في تلك البقعة النائية درسا عمليا في معنى الشفقة والرحمة والتضامن الإنساني، في أكثر صوره صدقا وعفوية ورفعة وارتقاء، وأنا أتابع، بعين الرعب والذهول، هذا الدرك من الوحشية والقسوة وانعدام الضمير التي بلغها عدد صادم ليس قليلا من نماذج محسوبة زورا وبهتانا على الجنس البشري، يعبرون عن شماتةٍ وتشفٍّ وفرحٍ بالغ، إثر الأعاصير التي اجتاحت فلوريدا التي أودت بحياة ضحايا كثيرين، علاوة على انهيار بيوتٍ سكنتها عائلات بأطفالها ومسنّيها وحيواناتها الأليفة، فكتب أحدهم، فيما انهمرت على صفحته اللايكات المؤازرة لحالته السوداء المزرية: 'اللهم زد وبارك في قوة هذا الإعصار ولا ترحمهم، هجروا المسلمين من منازلهم وبلدانهم فهجرهم الله، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، إنك سميع الدعاء'.
بطبيعة الحال، نماذج سوداء شوهاء كهذه لا تمثل سوى أحقادها وعقدها النفسية وأوهام التفوق المسيطرة عليها، في تكرار غبي لنظرية شعب الله المختار، غير مدركة أنها، بطروحات كهذه، ترتكب إساءة كبرى بحق الإسلام، جوهرا وفكرا وعقيدة ومنهج حياة، وتشوّه قيمة الإنسانية النبيلة الحقيقية القائمة على الرحمة والتعاضد والتعاطف وحس الشفقة العالي الذي بشر امرأة بدخول الجنة، لمجرد أنها عطفت على قطة سائبة، وذلك في تبسيطٍ عميق لحالة الرحمة التي يبنغي أن تكون عنوانا لهويتنا الإنسانية، وهي أبعد ما تكون عن الشماتة والتشفّي بأحزان الآخرين.

نيسان ـ نشر في 2017-09-18 الساعة 15:10


رأي: بسمة النسور

الكلمات الأكثر بحثاً