اتصل بنا
 

مقبرة الحتميات

نيسان ـ نشر في 2017-09-12 الساعة 17:25

عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد يفندان نظريات التغيير الاجتماعي والسياسي، والجغرافيا العربية تصلح لتكون مقبرة لهذه النظريات.
نيسان ـ

نحمد الزمن الذي جاد علينا بعبد الفتاح السيسي وبشار الأسد؛ لتفنيد كل نظريات ماركس وهيغل وابن خلدون عن حتميات التغيير الاجتماعي والسياسي، فقد برهن هذان العالمان، بالسوط والهراوة، أن 'التاريخ يعود إلى الوراء'.
لكل هؤلاء وأضرابهم أقول: يكفي من العرب أنموذجان لقلب كل نظرياتكم التي تزعم أن 'النصر في آخر المطاف حليف الثورات، إذا نضجت ظروف اندلاعها، وبلغت التناقضات بين السلطة والشعب ذروتها، وانقطع التواصل بينهما'. فثورة الربيع المصرية لم تنطلق إلا بعد أن نضجت (وربما خمّجت) ظروفها، وانقطعت أي لغة حوار بين الشعب وسلطة حسني مبارك، وبلغ الناس حضيض الاستبداد والطغيان، فاندلعت تلك الثورة متأجّجةً في كل مدينة وقرية مصرية، وامتلأت الشوارع بالملايين الذين رفضوا المغادرة، على الرغم من الرصاص الذي يخترق صدورهم العارية، والسيارات المصفّحة التي كانت تعتلي أجسادهم، ثم كان ما كان من تنحّي حسني مبارك، وتسلم محمد مرسي السلطة بالانتخاب الشعبي. وفي آخر المطاف، تم الالتفاف على الشرعية، بمؤامراتٍ خارجية وداخلية، وعاد مبارك من جديد بقناع عبد الفتاح السيسي، لكن مع جرعة أزيد من القمع والفتك والاستبداد.
وعلى نحوٍ أشد بشاعةً، عاد بشار الأسد الذي كان موشكًا على السقوط هو الآخر، لولا نخوة آل بوتين وإيران وبغداد، ليصعد المنبر قبل أيام، معلنًا انتصاره القبيح على ثورةٍ جازفت بكل شيء، في سبيل الخلاص من هذا الطغيان الذي عانت من ويلاته عقودا من حكم الأسديْن، بعد أن محا الأسد الابن الثورة محوًا، بالقنابل العنقودية والفسفورية والغازات الكيميائية، وهجّر نصف شعبه، ليصفو له النصف الآخر 'المطهّر'، و'الأكثر تجانسًا' كما يزعم، لأنه لا يحتمل أي صوتٍ للمعارضة أو أي خروج على خط الحكم الذي أراده ذات كابوس.
وقد أبدو مفرطًا بالنكاية فأزعم، كذلك، أن الجغرافيا العربية، وحدها، تصلح أن تكون مقبرة لكل نظريات علم الاجتماع والسياسة والعلاقات الدولية.
ربما كان الزمن رحيمًا بكم؛ أيها المفكّرون الأشاوس، فلم تشهدوا سقوط نظرياتكم على يدي لصوص الثورات، ولم تروا بأم أعينكم كيف يُعيد المستبدون إنتاج أنفسهم في بلاد الملح، أما الثورات فتفنى، ولا تستحدث من جديد، إلا بعد أجيال.
غير أنني لن أقف في تفنيد نظرياتكم عند شرقنا المبتلى بالمستبدّين، بل في وسعي أن أزعم، أيضًا، أن غربكم يمارس التفنيد ذاته، لكن على أرضنا نحن، فهذا الغرب الذي يدّعي الحرية وحقوق الإنسان وحتمية التغيير الثوري، لا يريد لهذه الأرض أن تنعم بما ينعم به، لقاء مصالح رخيصةٍ لا تشبع نهمه، فحريته له وحده، لا تتجاوز حدود خريطته، أما خارجها فهو على استعدادٍ لممارسة سائر أشكال الطغيان والاستبداد، ودعم الطغاة الصغار، كبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي وعلي عبدالله صالح وخليفة حفتر، وغيرهم من طغمة لصوص الثورات الذين أجهزوا على ربيعنا وتوقنا للحرية.
يتبجّح ساسة الغرب بمفردات الحرية، ويتغنون بها، صباح مساء. لكن إذا اقتربت هذه الحرية من بلادنا، سرعان ما يُشهرون مخالبهم للقضاء عليها ووأدها في مهدها، ثم يتساءلون بمكر، في محافلهم الدولية، لماذا يبقى العرب متخلفين؟.. يباركون للسيسي انقلابه على الشرعية وصناديق الاقتراع التي يقدّسونها في بلادهم، لكن الصناديق ذاتها تغدو في بلادنا عبواتٍ ناسفة تخيفهم إذا اقتربنا منها، يلعنون الأسد ويقذفونه بأقذع الأوصاف مستبدّا وطاغية، لكن من وراء الستار يريدونه حاكمًا أبديًّا، لأنه يكفل الإجهاز على أي مطلبٍ شعبي بالحرية.. باختصار هم أحرارٌ في بلادهم وطغاة في بلادنا.
أما نحن، فعلينا أن نواجه طغيانًا مركّبًا كلما فكّرنا بالحرية، لأن العتاة الذين نواجههم لا يقفون عند مستبدينا وحدهم، فوراء كل منهم طغاة ومستبدون آخرون، شرقيون وغربيون، يربطون مصالحهم ببقاء هذه الطغمة فوق صدورنا، من أضراب السيسي والأسد وغيرهما، ولا يرون في هذه البلاد إلا جغرافيةً غير صالحةٍ إلا لدفن نفاياتهم النووية وحتمياتهم التاريخية.

نيسان ـ نشر في 2017-09-12 الساعة 17:25


رأي: باسل طلوزي

الكلمات الأكثر بحثاً