اتصل بنا
 

بارسا

نيسان ـ نشر في 2017-08-21 الساعة 13:33

برشلونة: مدينة الفن والإبداع والتباينات
نيسان ـ

لا رامبلا. أعرف هذا الشارع الذي سال فيه دمٌ وتعالت صرخات فزع. نزلت في فندق بشارع يتفرّع منه ذات يوم. لم أكن زرت برشلونة من قبل، ولا حتى إسبانيا. هكذا كانت برشلونة أول مدينةٍ إسبانية أزورها في فترةٍ كنت مهتماً فيها بالأندلس، فكرةً وإرثاً، وحلماً عالمياً للتعايش بين ثقافاتٍ وبشر مختلفين، في شؤون كثيرة، لكن يجمعهم ما يجمع البشر من ضرورة العيش، بل ما هو أعلى: تحويل هذه الضرورة إلى فن وإبداع في المعمار، الشعر، الزراعة، الحدائق، المطبخ، وصولاً إلى فن الإتيكيت على يد زرياب البغدادي.
ذكَّرني مدخل برشلونة بمدخل بيروت من جهة المطار، سوى أن العمران أكثف في الأولى. أما وسط المدينة فذكَّرني، على الفور، بدمشق، لا لشبهٍ في الملامح، وإنما بسبب رائحة وقود السيارات القوي الذي يعشّش في أنف كل من يزور 'الفيحاء'. ويبدو أن نسبة التلوث عالية في العاصمة الاقتصادية والصناعية لإسبانيا التي ترفع وتيرة الحركة في جوانبها أشغال دورة الألعاب الأولمبية المرتقبة، بشغفٍ تعكسه إعلانات الشوارع ويافطاتها.
مع ذلك، لبرشلونة إيقاع المدن المتوسطية. لها شكلها. عمرانٌ له رحابته وانسجامه مع بيئته. بيوتٌ بنوافذ كبيرة عالية، بعضها مزين بمشربياتٍ خشبية، وبعضها يؤدي إلى شرفاتٍ تتسع لجلسةٍ عائلية. هرج الناس في الأسواق، الرنين المرح للتحيات بين مارّةٍ على جانبي الطريق.. ثم السجائر المدخنة أبداً بين الشفاه. ولواحدٍ قادمٍ من لندن، مثلي، سيلحظ الفرق فوراً. ففي الوقت الذي يصعب أن ترى فيه في لندن موظفين يدخنون، فيما هم يزاولون أعمالهم، سواء في المؤسسات الرسمية أو محال التجارة، الجميع، هنا، تقريباً يدخّن.. وفي كل مكان، ابتداء من ضباط الهجرة والجوازات في المطار، إلى السابلة في الشوارع.
في ساحةٍ بالقرب من البحر، يلفت نظر الزائر، من أيّ طرفٍ وصل إلى المدينة، تمثالٌ كبير لابن جنوى، كريستوفر كولومبوس، وهو يشير بيده صوب البحر. وغير بعيد عنه نسخة من مركبه 'سانتا ماريا' الذي أبحر به ليصل إلى 'الهند' (أو الشرق) من طريق الغرب، فإذا هو في عالمٍ لم يفكر في وجوده. تمثال كولومبوس الذي يُرى، تقريباً، من أي مكانٍ في المدينة مسلةً، عموداً من الحديد، أو البرونز، طوله نحو أربعين متراً. على قمته يقف 'مكتشف العالم الجديد'. يده التي تشير إلى بحر برشلونة لا تشير، فعلاً، إلى المرفأ الذي غادره في رحلته إلى 'الهند' بعد إلحاحٍ طويلٍ على ملكي إسبانيا اللذيْن تسلما، للتو، مفاتيح غرناطة من أبي عبد الله الصغير. فهو يشير إلى اليابسة التي انبثقت أمامه بعد خمسة أسابيع من الإبحار في الميحط الأطلسي المتلاطم.. وكانت ما يعرف اليوم بجزر الباهامس. ثمّة من يرى أن يده اليمنى التي تشير إلى 'شيءٍ ما' في الأفق ليست مصوّبةً في اتجاه 'العالم الجديد' الذي 'اكتشفه'.. بل إلى مسقط رأسه جنوى.
كنت أظن أن كتالونيا لم ترتبط بتواريخ الأندلس العربية. وهذا خطأ، فقد علمت أن رياح العرب وصلت إلى برشلونة، بل ثمّة رواية تنسب نشأة المدينة إلى هاملسار بارسا، والد حنا بعل القرطاجي، وسميت بارسينو، ويبدو أنها ظلت تحتفظ بذلك الاسم حتى اليوم مع بعض التحريف، كما يتضح من جرْس الكلمة. حتى إن 'بارسا'، الاسم الطائر لفريق كرة القدم الكتالوني الشهير، لا يزال يحمل ذلك الصدى الفينيقي البعيد. عرفت، كذلك، أن المدينة وصل إليها جيش طارق بن زياد، لكنها لم تصمد طويلاً في عهدة الجيش العربي الإسلامي، فاستعادها مسيحيو الشمال بقيادة لويس الورع، ابن شارلمان، في القرن الثامن. وبقيت تحت حكمهم نحو 84 سنة، إلى أن صعد في سماء إيبريا نجم القائد الشهير أبو عامر المنصور، صاحب الخمسين 'غزوة'، وضمها إلى مملكته العامرية التي شملت معظم شبه الجزيرة الإيبرية، ووصلت إلى بلاد الباسك في أقصى الشمال. ويبدو أن هذا القائد، ابن الجزيرة الخضراء، قد حظي بتماثيل كثيرة أقامها الإسبان المعاصرون لبعض رموز الحقبة العربية الإسلامية.
لم يطل بي المقام في برشلونة. هي ليلة قضيت نصفها متسكعاً في شارع لا رامبلا. أردت أن أمشي تحت ليل رطب ودافئ. هذا لا يحصل، طبعاً، في لندن التي أجيء منها. لا أعرف أحداً في هذه المدينة، ولم أزرها من قبل. لذلك بقيت أحوم بالقرب من فندقنا في وسط المدينة خشية أن أتوه. وكان هناك أناسٌ كثر في الشوارع، على الرغم من أن الصيف لم يأت بعد.. مثل هؤلاء الناس هم الذين كانوا ضحايا السيارات العمياء التي لا تميّز، وهي تدوس الأجساد، بين سحنةٍ وأخرى. في هذا الشارع، سال دم على يد عرب مسلمين.. ولم يكونوا من أحفاد أبو عامر المنصور.. حتى لو تخيّل 'خليفتهم' المختل أنه كذلك.
مشاركة

نيسان ـ نشر في 2017-08-21 الساعة 13:33


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً