اتصل بنا
 

سلامات أيتها الشجاعة

نيسان ـ نشر في 2017-08-19 الساعة 14:05

فدوى سليمان: الشابة السورية التي تحدت النظام ودافعت عن الثورة الشعبية
نيسان ـ

كنا ننتظر نشرات الأخبار على فضائيات العالم، لنشاهد البث الحي لمظاهرات الخالدية والبياضة والوعر في حمص العدية. أتذكر حالة الفخر التي كان كثيرون منا يشعرون بها، ونحن نشاهد عبد الباسط الساروت، العشريني الأسمر حارس مرمى نادي الكرامة السوري لكرة القدم، ترافقه الممثلة السورية الشابة فدوى سليمان، وهما يقفان على منصةٍ في ساحات الخالدية والبياضة، محاطين بشباب حمص، وبآخرين قادمين من مدن أخرى. كان الساروت وفدوى يهتفان ويغنيان، وكنا نردّد معهما الغناء في بيوتنا. لم يكن في سورية من لم يسمع بهذا الثنائي الاستثنائي، وكذا في العالم الذي كان يتابع ما يحدث في سورية أيضا. وجودهما معا، شاب وشابة سوريان من طائفتين مختلفتين، في وقتٍ كان النظام ومؤيدوه يركّزون على أن ما يحدث في سورية إرهاب ضد الأقليات. وكان وجود فدوى العلني في حمص، برفقة الساروت، ردا صريحا على ما يروّجه النظام.
لم تكن حمص محطة فدوى الوحيدة، ربما كانت محطتها ومحطة الثورة الأخيرة، قبل أن تتحوّل الثورة إلى السلاح والأسلمة، وقبل أن يبدأ تجار الدم والدين والسلاح بالسير على خطى النظام في تأكيد أن ما يحدث في سورية ليس سوى انتفاضة إسلامية، نازعين صفة الثورة الشعبية وشعارات الديمقراطية والتعدّدية والحكم المدني عنها. في تلك الفترة، خوّن كثيرون فدوى، وحرّضوا ضدها، كما فعلوا مع كثيراتٍ غيرها ممن ينتمين إلى الأقليات السورية، وشاركن السوريين الثائرين مظاهراتهم وحصارهم ووجعهم في بلداتهم ومدنهم المحاصرة. في الوقت نفسه، كان بعض أفراد عائلتها يتبرأون منها، ويتهمونها بخيانة الوطن.
لم تترك صفحات 'فيسبوك' ومواقع النت السورية الموالية للنظام، وبعض المناهضة له، تهمة تمسّ سمعة امرأةٍ إلا وألصقوها بفدوى سليمان التي كانت، قبل حمص، تتنقل بين بلدات ريف دمشق، برزة ودوما وحرستا وعين ترما وقدسيا، فدوى التي كانت في كل مظاهرات العاصمة دمشق، وفي كل حراكٍ مدنيٍّ في 2011، فدوى التي كانت شجاعتها وجرأتها ذلك الوقت مثار استغراب لنا، نحن الذين كنا نخاف، إذا رأينا شبّيحا يحمل عصا بيده، كانت تقف هي في وجهه هاتفةً بذلك الشعار الخالد 'حرية..'. وكغيرها، ممن لوحق وحوصر وفقد أي مكانٍ له، غادرت فدوى سورية، بعد المآلات المؤسفة للثورة. رحلت إلى باريس، حيث استقبلت هناك واحدةً من أيقونات الثورة. كانت هي هكذا فعلا، غير أنها، كغيرها، لم تحتمل كل ما حدث، الخسارات الكبيرة في الثورة، التحولات التي أصابت رفاق طريقها، الغربة واليأس وفقدان الأمل، الهوة العميقة في الروح التي تحدث نتيجة فاجعة الفقد.
فقدت فدوى وطنها، الوطن المكان والوطن الحلم، فقدت صوتها العالي الذي سمعه العالم، أسكت صوت السلاح وصراخ الدم صوت هتافها وأغنياتها. ومثل كثيرين غيرها، كان الخذلان والخيبة يعيشان معها. ومثل كثيرين، عاشت حالة النكوص المرعبة. كان نكوص بعضهم نحو ماض متحجّر بعد أن صار المستقبل الحلم تحت التراب. وكان نكوص آخرين فرديا يبحث عن خلاصٍ شخصي. وبعضهم، ومنهم فدوى، كان النكوص على شكل مرضٍ يأكل أجسادهم شيئا فشيئا. أصيبت فدوى بسرطان الرئة، يا للعجب، كأنه كان يعرف أن رئتيها لا تصلحان للتنفس خارج سورية التي أحبتها، وحلمت بها بهيةً وعالية. قليلون من عرفوا بمرضها، كانت في باريس تمر بانقلابات نفسية عديدة، شأن الجميع، غير أن انقلاباتها كانت محط النظر، كما كان وجودها في الثورة.
لم نفهمها جيدا. أنا من هؤلاء، لم أقدّر حالتها، وما يمكن أن تكون قد مرّت به. انقطعتُ عنها، ولم أعرف عنها شيئاً إلا أخباراً متفرقة، كان آخرها عن مرضٍ تعاني منه. هل لهذا ارتجّ كياني حين قرأت خبر رحيلها؟ هل لأنني اكتشفتُ كم كنت متنمرةً وغبيةً حين انقطعت عنها لأسباب تافهة؟ سلامات، يا فدوى. سلامات، يا شجاعة. سلامات كان يجب أن أرسلها إليك منذ زمن، لكنني لم أتوقع رحيلك قبلي.

نيسان ـ نشر في 2017-08-19 الساعة 14:05


رأي: رشا عمران

الكلمات الأكثر بحثاً