اتصل بنا
 

سرطانُ الدماغِ اللبنانيّ

نيسان ـ نشر في 2017-08-08 الساعة 14:56

فضيحة صيدلانية في مستشفى رفيق الحريري الحكومي تكشف عن استبدال الأدوية السرطانية بأخرى منتهية الصلاحية ومزورة، وتورط عدد من الموظفين والأطباء في القضية، ولم يتم توقيف أحد منهم حتى الآن.
نيسان ـ

لا تتركك تلك الواقعة. تتشبث بأذنيك، تقرص عقلك لأنك ترفض أن تصدّق، وكلما تمعّنتَ فيها، اقشعرّ بدنك مرارا وتكرارا، وأنت تكاد لا تحتمل أن تكون جاريةً منذ سنوات، كالمياه الصامتة، من تحت قدميك.
تقول الواقعة إن ثمّة صيدلانية تدعى منى بعلبكي، هي رئيسة قسم الصيدلة في مستشفى رفيق الحريري الحكومي، كانت تستبدل الأدوية الخاصة بعلاج مرضى السرطان بأخرى، لتعود فتبيع الأولى لحسابها الخاص. وقد تمّ فتح تحقيق عام 2008، عندما كشف النائب إسماعيل سكريّة عن تورّط أحد الأطباء في المستشفى المذكور بعمليات غشّ وتزوير أدوية سرطانيّة، ما أدّى إلى تحرّك التفتيش المركزي وفتح تحقيق. هكذا تم استجواب بعلبكي خلال عام ونصف العام، غير أنها لم توقَف عن عملها إلا منذ عامين، ومعناه أنها استمرت تمارس عملها خمسة أعوام إضافية، قبل أن تسافر إلى السعوديّة.
تقول بعلبكي، في اعترافاتها، إنها استبدلت 'الأدوية السرطانيّة مرتفعة الثمن، التي تحصل عليها المستشفى مجاناً من وزارة الصحّة لمعالجة مرضى السرطان، بأدوية أخرى منتهية الصلاحية وفاسدة ومزوّرة، بعضها يعود إلى هبات حرب تموز، وبعضها مصدره الهند كانت تشتريها من أحد التجّار المحليين، وأخرى غير مسجّلة في وزارة الصحّة'، فكانت 'تعطي علب الدواء الأصلي إلى مستشار في مكتب الوزير (ع.خ)، لتباع كلّ علبة بنحو 5 إلى 6 ملايين ليرة لبنانيّة. وقد باعت نحو 150 علبة خلال سنة فقط. كما أقرّت بتورّط 'نحو 20 موظّفاً في المستشفى معها، ومن ضمنهم الطبيب المتخصّص في الأمراض السرطانيّة (ر.ج)، وموظّفون في وزارة الصحّة'.
أجل، هي عمليّة مخيفة استمرت فترة من دون التمكّن من تحديد عدد ضحاياها من أطفال ونساء ورجال اعتقدوا أنهم يخضعون للعلاج، فيما كان يتم دفعهم إلى ملاقاة حتفهم، من دون علمهم. أجل هذا الرعب والإجرام كله، ولم تظهر نتيجة التقرير إلا أمس، مع إصدار قرارٍ بعزل المتهمة من الوظيفة العامة، من دون توقيف أحد من المتورّطين المستمرين في مواصلة عملهم داخل المستشفى الحكومي. انتشر خبر الفضيحة أخيرا على الملأ، فضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالاستنكار وبالدعوات إلى معاقبة بعلبكي.
والحال أن المذهل في الفضيحة ليس حجمها فحسب، وليست قسوتها أو وحشيتها بحق مرضى فقراء مستضعفين، غير قادرين على الاستشفاء في القطاع الخاص، وليست شبكات المافيا والفساد التي يكتشفها المواطن كل يوم في أعضاء الحكومات المتعاقبة، من دون أن يهزّ ذلك 'جبل' ولائه للزعيم وللطائفة. المذهل والمرعب هو سرطان الدماغ اللبناني الذي فقد كل حساسية ومعيار ومرجع ومنطق، فبات وكأنه غير معنيّ ألبتة بما يقع له. اللبناني كائن حرّ كما يحلو له أن يعرّف بنفسه؟ لا، اللبناني كُرّ، مصابٌ بسرطان الخنوع والرضوخ والاستسلام، إذ ما الذي يمنعه من النزول إلى الشارع، للمطالبة بمعاقبة المسؤولين وتطبيق القوانين، كلّما أخطأ مسؤولٌ بحقه، على الأقلّ لرفع العصا في وجه هذا الأخير، ومنعه من التمادي أكثر.
فضيحة مخيفة كهذه كانت لتهزّ أركان أي بلدٍ طبيعي، بل أي بلدٍ في العالم، كانت لتُسقطَ حكوماتٍ وتنهي الحياة المهنية والسياسية لأطباء ومسؤولين، وسواهم من متورّطين كبار وصغار. لكنها ههنا لا تعدو أن تكون خبراً يتداوله الناس. أسمعت بفضيحة أدوية السرطان؟ نروي ونستنكر ونستعيذ بالله، ثم نفتّش عن بعلبكي ونتمازح حول صورها المنشورة في الصحف، كيف أنها كانت 'قبل، وبعد'، أي ما قبل 'النعمة' وما بعدها، وما قبل السرقة وما بعدها، وما قبل المقتلة وبعدها، وكيف تحوّلت من امرأةٍ محجبةٍ بسيطة المظهر، إلى واحدة منفوخة الشفاه، موشومة الحواجب، مكحولة العينين، بخمار حريري يؤطر بالكاد وجهها. أو نتمازح كيف تضع الدعاء تلو الدعاء على جدارها الفيسبوكي، أو تردّ على قرار عزلها بأنها ستقاضي كل من شوّه سمعتها.
أجل، ترى منى بعلبكي أنه تشويه سمعة لا أكثر، فيما لا تحضر في ضمائرنا صورُ أولئك المرضى الذين قضوا إهمالا وجشعاً وفساداً وتملّصاً من أية محاسبة. لا تحضرنا صورهم، ولا هم يحضرون بأوجاعهم ومعاناتهم ومعاناة أهاليهم، بفقرهم وقلة حيلتهم وهشاشتهم أمام فيالق الغيلان.

نيسان ـ نشر في 2017-08-08 الساعة 14:56


رأي: نجوى بركات

الكلمات الأكثر بحثاً