اتصل بنا
 

مشبوهون حتى الموت

نيسان ـ نشر في 2017-07-30 الساعة 16:09

عجزنا عن تغيير مجرى الأمور في وطن يحكمه الأحزاب الدينية والميليشيات المسلحة وعصابات الجريمة
نيسان ـ

خدعنا علماء النفس وعلماء الاجتماع والمنظرون الآخرون من صناع الأمل الإنساني حين أكدوا لنا عبر كتبهم وأطروحاتهم أن بإمكان البشر تغيير مجرى الأمور وقد ينجح قلة منهم بتغيير مسارات التاريخ وحيواتهم الشخصية معها، ثم اكتشفنا أن ذلك ممكن الحدوث في دول تمتلك الحد المعقول من العدالة وضمان الحقوق الإنسانية، أو في دول تطبق الديمقراطية في ممكناتها الإنسانية والسياسية والقانونية.

أما نحن هنا والآن فنعترف بعجزنا الكامل، فبلادنا تتحكم بها الأحزاب الدينية المتضامنة بطائفييها، وحيث هيمنة الميليشيات المسلحة وعصابات الجريمة وصراخ خطباء الجوامع مهددين بالويل والقصاص لمن يخالف حكومة التكليف الإلهي، والمخالفة هنا تعني أن يحمل أحدنا فكرا مستقلا نتاج ثقافة عقلانية ومنظومة قيمية مختلفة يؤسس عليها مواقفه وأسلوب حياته بمجمل تفاصيلها اليومية ويجرؤ على انتقاد الفساد، شخص مخالف مثل هذا لا يسعه أن ينطق بالحقيقة أو يمتدح موقفا ما أو يستنكر حادثا معينا فهو في موضع شبهة إلا إذا ذكر حادثا موازيا منسوبا لطائفة أخرى ليكتمل المشهد المطلوب وتخفّ دواعي الاشتباه وتتراجع الاتهامات إلى حين، فأن تستنكر ما يجرى للمهجرين في منطقة معينة أو تكتب عن المغيبين المخطوفين في منطقة أخرى لا بد لك -كي تتجنب الاتهام وتسلم من رقابة المتربصين- أن تستنكر وتعدد المجازر والفواجع كلها في سياق حديثك وتستشهد إن أمكن بالوقائع التاريخية، وإلا حكم عليك بالخيانة، مع أنك خدمت وطنك حتى النهاية ولم تسرق أموالا عامة ولا استوليت على عقارات الدولة ولا نهبت خزينة دولتك ولا حوّلت كل مظاهر الإعمار السابقة إلى أنقاض وخرائب.

في وطني يعتمد المهيمنون على السلطة سياسة العزل والتغيير الديمغرافي وإقامة غيتوهات لحصر المختلفين ضمن أسوارها بحجة مكافحة الإرهاب، ويجري تهديد المختلفين دينيا لإرغامهم على الهجرة للاستيلاء على ممتلكاتهم، يحدث هذا كله مع أصناف المختلفين؛ فالناس هنا مصنفون في خانات الدين والمذهب والفكر والعِرق، فأنت مشبوه عندما تكون من طائفة لم تخترها وإنما آلت إليك من والديك وهما ورثاها بدورهما عن أسلاف متعاقبين وأنت غير معني بها. تبقى مشبوها لأنك من عشيرة معينة مع أنك علماني الفكر وإنساني النزعة والمواقف وتستهجن سلطة العشيرة والطائفة والمناطقية ولا تنتمي لغير وطنك ومواطنتك، وأنت مشبوه إذ يرفض موظفو جوازات السفر تدوين لقبك الذي عرفت به طوال عمرك في جواز سفرك الجديد، وتبقى مشبوها لسبب أهم من ذلك كله وهو أنك عشت طوال عمرك في وطنك وكنت تعمل في دوائر الدولة شأن الملايين من مواطنيك الذين تحملوا وأسرهم تبعات الحروب والحصار وقدموا آلاف الضحايا.

ثم تأتي سلطة الأحزاب الدينية فتدينك لا لشيء إلا لمواطنتك وبقائك في بلدك، ولتقتص من جميع الموظفين السابقين والمتقاعدين الذين خدموا البلاد طوال عقود تستقطع من رواتبهم الضئيلة لدعم الخزينة التي نهبها لصوص السلطة.

أنت مشبوه لأنك تعشق الموسيقى التي يحرّمونها ومشبوه لأنك تحب الرقص وهم يحظرونه وتجّل الكتب وهم يحتقرون كل إبداع وينظرون بريبة إلى كل شأن ثقافي، هكذا نبقى نحن ملايين المشبوهين الخارجين على معاييرهم السقيمة تحت طائلة الشبهة لأننا نحمل وَسْمَ اختلافنا الفكري والإنساني، ولا نعلم في أيّ لحظة ستوجه إلى صدور شبابنا رصاصة من كاتم صوت أو هجمة عصابة مسلحة لمجرد تصنيفهم في باب من أبواب العزل العنصري والفكري والديني والطائفي.

سنبقى مشبوهين لأننا نؤشر خراب البلاد وفساد السلطة ولصوصها ونشخص كارهي وطننا والموالين لسواه.

نيسان ـ نشر في 2017-07-30 الساعة 16:09


رأي: لطفية الدليمي

الكلمات الأكثر بحثاً