اتصل بنا
 

في تذكّر جوزف سماحة

كاتب اردني مغترب

نيسان ـ نشر في 2017-02-27

نيسان ـ

لا تزيّد في الجهر، هنا، إن جوزف سماحة هو صاحب المقالة الأكثر حذاقةً في الصحافة العربية. ولا شطط في القول إنه كان من ألمع ذوي الكفاءة والموهبة في إنتاج صحافةٍ مهنيةٍ جذّابة وحديثة. والأدرى بهذه الحقيقة شهودٌ عملوا مع الراحل في غير دوريةٍ ويوميةٍ، لبنانيةٍ وعربية، تولى فيها المسؤولية التحريرية. أما الحقيقة الأولى، فمن دلائل غزيرةٍ عليها أن السؤال الأكثر حضورا في استعاداتٍ غير قليلة، نشرت أخيرا، لاكتمال عشرة أعوام على رحيل جوزف، هو عمّا كان سيكتبه، لو أنه بيننا، في هذا الشأن أو ذاك. وهذا سؤالٌ يعني، من بين حزمة معانيه، أن خسارة الصحافة العربية في فقدان 'صاحب القلم الأخضر' ثقيلة، فليس من الميسور، في راهن ما نطالع ونقرأ، أن تقع على عبارةٍ أنيقةٍ، ولغةٍ موحيةٍ، وخيالٍ نابه، وذكاء ظاهر، في مقالةٍ واحدةٍ تقلّ عن ستمائة كلمة، كما كانت عليه كتابة جوزف التي كان صاحب هذه الأسطر ممن طاردوها في أزيد من عقدين (لم يكن الأمر ميسورا قبلهما)، فمقالة جوزف ظلت ضرورةً، أو على الأصح، حاجةً لمن أدركته صنعة الجرائد وكتابة الرأي والتعليق الصحافي.

أثبت جوزف سماحة أن أزعومة العطب السريع للمقال اليومي غير دقيقةٍ دائما، وغير صحيحة عندما تتأتّى لدى الكاتب المعرفة اللازمة بما يكتب عنه، وعندما يتسلح بثقافةٍ رفيعة في الأدب والتاريخ، قبل السياسة ولو كتب فيها. والاستثنائية في عواميد جوزف وتعاليقه تحققت في قدرتها البديعة على ربطِ تفاصيل المستجدّاتِ بفضائِها العام، وبغيرِ العابرِ والعرضيِّ بشأنها، وبالخيوطِ الإِقليمية والعربية والدولية المتصلةِ بها، مع التقاط ما وراءَ الظواهر والوقائع والحوادث وخلفياتِها. وكثيراً ما سألتُ نفسي عن الوقتِ كيف توفَّرَ لجوزف ليقرأَ كل ما قرأَ قبل أَن يكتب ما كتب، عن تأّزمٍ في الجزائر أَو انتخاباتٍ مبكّرة في إيطاليا أَو فوز الكاتبٍ العنصريّ ف. س. نايبول بجائزة نوبل للآداب (مثلاً). أما متابعاته في مجلة اليوم السابع عن تحوّلات أوروبا الشرقية في خواتيم الثمانينيات ومطالع التسعينيات، فلا أتورّط في مبالغةٍ لو زعمت، هنا، أنها الأوفى في الصحافة العربية، ولها قيمتها الباقية. ومن أفضل ما صنعته صحيفة الأخبار البيروتية التي ساهم الراحل في إصدارها وترأس تحريرها، أنها ضمّت تلك المقالات في الكتاب (694 صفحة) الذي جمعت فيه مختاراتٍ من كتابات جوزف. .. وجوزف كان، في ما كتبَ، 'صانعَ الأَسئلةِ الصحيحةِ وساحرَها'، على ما صحّ قول عنه.
أما الخيارات السياسية والفكرية، منذ انتماءاته الحزبية و'الرفاقية' المبكّرة، لدى جوزف سماحة، فقد ظلت دائما في وجهة العدالة والعروبة واليسار، ونحو فلسطين ومعاداة إسرائيل، ومناهضة كل تعبيرات الإمبريالية والليبرالية ذات النزوع المتوحش. وقد استفاض أصدقاء الراحل في أطواره هذه كلها في التعريف بما أقام عليها من قناعات وأفكار، كان من محطاتها مناهضته الجسورة نظام حافظ الأسد في سورية، حتى إذا ما تخفّف من الإتيان على هذا الأمر، بدا أحرص على تظهير جذريّته في مناصرة كل مقاومةٍ لإسرائيل، من أي لونٍ كانت، وعلى إشهار نقده 'الحريرية' وحواشيها، و'أوسلو' وتمثيلاته. وفي كل هذه الغضون، ظل جوزف صحافيا، منحازا إلى المهنة، بتطلبّها الاحترافي، ومن ذلك أنه الذي استحدث صفحات التلفزيون والشباب (وغيرها) في صحيفة السفير إبّان رئاسته تحريرها، وإنه كان صاحب 'قدرةٍ مذهلة' (على ذمة عارفيه) في اقتراح الموضوعات وزوايا النظر إليها، في شؤون المنوّعات والثقافة والميديا، وهو الذي لم تكن تفوتُه، في الوقت نفسه، مدلولاتٌ في تعديل حكومي يجريه بيرلسكوني في إيطاليا، أو أي 'ململةٍ' في الحزب الشيوعي الصيني، أما عن اليمن وعلي عبدالله صالح فحدّث ولا حرج.
يخلّ هذا الإيجاز، هنا، كثيرا، بجمهورية جوزف سماحة الرحبة، وقد جاء عفو الخاطر، مدفوعا بإعجابٍ شديد بالصديق الكبير، والذي سعدتُ بمعرفته، وبلقاءاتٍ معه، كانت إحداها في نهار كامل في جرش وعمّان، بصحبة الصديق الراحل (أيضا) صلاح حزيّن. ويغافلني الآن أن عقدا مضى على رحيل كاتبي الأثير، فأستذكر مجدّدا وداعته إنسانا رائقا، وكاتبا وصحافيا لا يتكرّر.

نيسان ـ نشر في 2017-02-27

الكلمات الأكثر بحثاً