اتصل بنا
 

من يوميات باب اللوق

نيسان ـ نشر في 2017-02-05 الساعة 01:52

نيسان ـ

تحت بيتي في القاهرة قهوةٌ صغيرة جداً، طاولات وكراس قليلة العدد تحتل قسما من الرصيف، وتجذب العابرين الراغبين في استراحة قهوةٍ أو شايٍ أو شيشة سريعة. وبسبب صغر حجمها، وقربها الشديد من شارع باب اللوق الرئيسي، نادراً ما يصدر منها ضجيجٌ مزعج، فأصوات روّداها تضيع في ضجيج أصوات السيارات وأبواقها، السيارات التي تدخل من ميدان التحرير باتجاه باب اللوق وشارع الفلكي. يقع بيتي في هذا الشارع تماما، بحيث أنام وأصحو على أصوات 'العربيات'، وعلى صوت أم كلثوم الذي يصدح وسط كل هذا الضجيج، من دون أن يعرف أحد من أي اتجاه يأتي ويكرّر جملة 'على ابتسامتك تقولي أعيش'. وتحت شباك غرفة نومي تماماً ثمّة بائع للقمصان الرجالية الرخيصة، لا أحد يعرف لماذا هو الوحيد الذي يفتتح سوقه المؤلف من بسطة صغيرة، وصوت مرتفع يدلل به على بضاعته المعروضة، قبل حتى أن يقصد الشارع أيّ عابر أو مارّ. ومن مكانٍ قريبٍ جداً من البيت، ثمة زوايةٌ اختارها أحدهم لتكون مسجداً صغيراً بمكبر صوت يؤذّن به صاحب الزاوية أوقات الصلاة، بصوتٍ منفر يحاول التعالي على صوت الآذان الجميل الطالع من جامع عمر مكرم، العريق والقديم. وسط هذا كله أيضاً، وفي أوج زحمة الظهيرة، يمكنك أن تنتبه أن أحدهم يستمع إلى فيروز تغني 'سكن الليل'، ليختفي صوتها فجأة في أثناء مرور سيارة عابرة سريعة، يريد سائقها أن ينبّه الجميع أنه عاشق لأم الدنيا، وهو ينادي 'عالصعيدي'. أو سيارة أخرى سائقها صاحب مزاج جنرالي صريح، من دون أن يطغى ذلك كله على صوت 'خناقة' عابرة بين مجموعة من البائعين الجوالين، أو مجموعة من الشباب أحاطوا بمتحرّشٍ حاول الاعتداء على فتاةٍ تمر بالشارع.

أنزل من بيتي مع شقيقتي القادمة من باريس، في زيارة قصيرة، يوقفنا عم حسين (بواب العمارة) وأبناؤه الأسوانيون شديدو الوسامة، في طقسٍ يوميٍّ يؤكد أن ابتسامة مودة إنسانية ولهفة اطمئنان حقيقية قد تكون هي الانتماء في أحيان كثيرة، نعبر الشارع المزدحم، أنا وشقيقتي، أنا بمزيد من استرخاء المعتاد على العبور وسط أكوام السيارات المسرعة، وهي بتشنج المعتاد على نظام سير صارم، حيث ينتهي العبور القصير بضحكةٍ مشتركة من أثر الحالة الكوميدية التي كنا فيها وسط الازدحام الكثيف. في طريق مرورنا لعبور الشارع، سنكون عرضةً لنظرات هادئة من رواد القهوة الغرباء عن الحارة، تلك النظرات التي تلاحق الأنثى، لا لشيء، سوى الإعجاب بهذه التكويرات التي خلقها الله بقصد الغواية، في امتداد لسير السلف الذكوري الصالح في التاريخ البشري عموما، والإسلامي خصوصاً. تحولت هذه القهوة الصغيرة الهادئة، قبل أيام، إلى صالة عرض مذهلة، إذ وضع أصحابها أعمدةً عاليةً، ثبتوا عليها شاشة ضخمة، وأحضروا مزيداً من الكراسي، بحيث احتلت مساحة الحارة الضيقة بأكملها، ورتبوها على طريقة صالة السينما أو المسرح.
أما المناسبة فكانت مباراة الدور نصف النهائي في كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم بين مصر وبوركينا فاسو. كانت تلك المرة الأولى، منذ مدة طويلة، التي يتم السماح فيها لقهاوي حارات وسط البلد بوضع شاشات كبيرة، لنقل مباريات كرة القدم، الرياضة المفضلة لدى الغالبية العظمى من المصريين. تلك الليلة، استطاعت هذه القهوة الصغيرة أن تغيّر روتين الحياة اليومية في شارع باب اللوق، فالحارة امتلأت بالكراسي التي استقبلت السكان وأصحاب المحلات في المنطقة المحيطة بالقهوة. كان ثمّة رغبة مسبقة بالفرح لدى الجميع، قبل بداية المباراة، إذ أحضر بعضهم ما يشبه الطبل، ليبدأ الاحتفال بعد انتهاء المباراة، مصر ستفعلها وتكسب، كانت هذه رغبة تداعب خيال الجميع، إبعاد مؤقت لظل الحزن والهم الثقيل الذي يفرضه غلاء الأسعار والخوف من المستقبل. فعلها المنتخب المصري، وتأهل للدور النهائي، وعمّت الأفراح بين عموم المصريين ومحبيهم، أما أصحاب القهوة الصغيرة فكانت نظراتهم صبيحة اليوم التالي مشرقةً وفخورةً، كما لو أن الانتصار حدث بسبب الشاشة العملاقة التي وضعوها أول الحارة، والتي حولت اسم المكان من قهوة إلى مقهى.


نيسان ـ نشر في 2017-02-05 الساعة 01:52

الكلمات الأكثر بحثاً