اتصل بنا
 

سأم القراءة

نيسان ـ نشر في 2017-02-01

نيسان ـ

لم تعد القراءة عملاً وظيفياً لديّ. فهي، بعدما كانت، في مراهقتي وشبابي، فعلا تأسيسياً ومعرفياً، أصبحت اليوم أمراً أمارسه بانتقائية كبيرة، بهدف شحن بطارية روحي التي تفرغ منذ هنيهات الصباح الأولى، أي تقريباً ما أن أضع قدميّ في النهار. لا أقرأ إلا ما يقنعني بقراءته. ما لا يوقظ فضولي أو إعجابي منذ الصفحات العشر الأولى، سرعان ما يقع من يديّ. أحياناً أبذل مجهوداً إضافياً، إذ لا بدّ، ولعلّ، وربما هي البداية المتململة فقط، وحتماً لاحقاً سوف تتحسّن الأمور. إنما لا. الأمور لا تتحسّن في حين تكون البداية بهذا السوء، بل إنها تتردّى إلى درجةٍ تدفع ندمي إلى مدّ لسانه في وجهي مستهزئاً بي: لمَ إضاعة هذا الوقت، وأنت قادرةٌ على استغلاله بطريقة أفضل: في الطبخ مثلا، أو المشي، أو حتى في الاستسلام لضجر كونيّ.
يصيبني هذا الندم، حين أذعن لما يقال ويُكتب: هذا عملٌ رائع، كتابٌ استثنائي، كاتبٌ كبير... نعوت تفخيم وتعظيم تغرّر بي أحيانا. لكن، عندما أجري فوق الصفحات المذكورة، أشعر أني فأرٌ صغير تمّ الإيقاع به، بواسطة قطعة جبن بلاستيكية. وإلا، فما معنى أن تقرأ الجملة الأولى، أو المقطع الأوّل، من عمل كاتبٍ معترف به عربيا على أنه أبو الرواية الـ...، في البلد الفلاني، أو صاحب الجائزة المهمة الفلانية، أو الطبعات العشرين، فلا تتمكّن من فهم تركيبتها بعد قراءتها للمرة العاشرة، لا لأنك لا تقرأ في العادة، أو لأنك لم تستوعب، بل لأن الجملة غير ممكنة الحدوث، إلا تحت أقلام كتّابٍ محدودي الرؤية ومحدودي القدرات، لا ناشر يردعهم، ولا ناقد يقيّمهم، ولا قارئ، لمحدودية اطلاعه، يحاسبهم على الطبق الأدبي المتراخي والمفكّك الذي يقدّمونه له.
أفكّر في هذا الكمّ العجيب من الكتب التي لا يفيض بها العالمُ العربي فحسب، بل القارات الخمس، وبكل اللغات. أيُعقل أن يكون مؤلّفوها كلهم كتّابا من أولئك الذين يضعون كتبا تعشّش في وجدانك، فلا تفنى ولا تموت؟ الأمر إذاً منطقي وبديهي، ولا يحتاج إلى أي برهان. لمَ إذاً هذه الرغبة بالكتابة التي اجتاحت العالم كالفيضان؟ ما الذي يجعل بعضهم، وهم باتوا كثرا، يذهبون بملء إرادتهم إلى هذه اللعنة، إلى ذلك الجحيم؟ أبسبب وعيهم الحادّ بفرديّتهم/ فرادتهم؟ ألأنهم شبعوا علما وقراءةً وباتوا اليوم راغبين بنقل معارفهم إلى آخرين؟ أم لأنهم باتوا يجدون في الكتاب الذي يقرأون سلعةً يمكن تقليدها، وغزو السوق بها، كما فعل ويفعل آخرون؟
خلال سنوات إقامتي في فرنسا، تعرّفتُ إلى مفهومٍ غالٍ جدا على قلوب الفرنسيين، أعتقد أنه تبلور بعد أحداث 1968، وهو 'دمقرطة الفنون'، ومفاده بأن من حق كل مواطن أن يتعلّم الفنون على أنواعها، من دون إثبات موهبةٍ مسبقةٍ لممارستها. هكذا، صار كل من تابع محترفا في الرسم، على سبيل المثال، قادرا أن يدّعي أنه فنان تشكيلي، وهكذا دواليك. 'ثورة ثقافية' بالمقلوب، أقنعت الأكثرية أن الإبداع عامةً في متناول الجميع، ممارسةً وحرفةً، كأية مهنة اعتيادية أخرى، ولم يصحّح أحدٌ هذا الأمر. ولم يقل أحدٌ إن الهدف هو التثقيف والمساعدة على التذوّق والفهم والاستمتاع، لا على الإنتاج، حين لا تكون الموهبة الأصيلة متوفرةً. ولم يقل إن الإبداع نارٌ كنار بروميثيوس، تنهش الروح والأحشاء، وصخرة أثقل من صخرة سيزيف، ولعنة، ومسّ، ومرض، ووباء.
بيد أن ما يميّز العالم العربي، ولا بدّ، عن العالم الغربي، هو مفارقة استيقاظه المفاجئ على رغبة الكتابة، لا على رغبة القراءة، لأنه، على عكس العالم الغربي، قد عاش عقودا طويلةً قاسيةً من قمع حرية التعبير، فكان طبيعيا، مع انحسار شدة الرقابة، بفضل الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتكاثرها، أن يسارع الجميع إلى الكتابة، مع ما يعنيه ذلك من إيجابياتٍ، وسلبياتٍ في مقدمتها غياب ثقافة القراءة وانخفاض معايير التقييم، إلى حدّ قد يصحّ معه إطلاق الدعابة: بات لدينا كتاّب أكثر مما لدينا قرّاء...
مشاركة

نيسان ـ نشر في 2017-02-01

الكلمات الأكثر بحثاً