اتصل بنا
 

الثورات العربية وسؤال الحداثة

نيسان ـ نشر في 2017-01-19 الساعة 01:29

نيسان ـ

قبل الثورات العربية بحوالي عقد، تزايد الداعون إلى تبنّي 'ما بعد الحداثة' نموذجاً ومنهجاً وأدوات تحليل، تستطيع أن تخدم الثقافة العربية، وتعرّفنا بالواقع العربي بشكل أفضل، وتضعهما على سكك أخرى، غير التي أوصلت الواقع العربي والثقافة العربية إلى مأزقهما الراهن، فقد استطاعت هذه الاتجاهات في الغرب توسيع حدود الحرية، ويمكن أن تقوم بالدور نفسه في مجتمعاتنا.
ردت الثورات العربية على سؤال 'ما بعد الحداثة' واقعياً، من دون أن تكون معنيةَ بالسؤال مباشرة، لكن القضايا التي أثارتها الثورات في الواقع السياسي والثقافي هي إجابة على أسئلة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي. حيث نبش هذا الحراك باطن المجتمعات العربية، وكشف وقائع سياسية وثقافية كثيرة كانت مغطاةً بقشرة رقيقة من تجميل الواقع العربي أو الجهل به. لذلك كان من أهم ما جاءت به الثورات أنها كشفت حجم المأزق السياسي والثقافي والاقتصادي والمجتمعي الذي وصل إليه العالم العربي، بعد سنوات طويلة من سلطات مهمومة بالحفاظ على كرسيها عبر أدوات القمع فقط. لذلك كانت الثورات العربية محاولةً لاستعادة المعنى، وللإمساك بالقضايا الرئيسية في السياسة والثقافة والمجتمع.
أما عن 'ما بعد الحداثة' فقد كانت أقرب إلى ديكورات خارجية، تم تركيبها في الثقافة العربية، على أساس أننا نماشي العصر على المستوى الثقافي، وبالتالي، نحن جزء من هذا العالم على المستوى السياسي للعصر الزمني نفسه. طبعا، ليس القصد هنا أن الكلام عن 'ما بعد الحداثة' كان توظيفاً مباشراً من السلطات لتحسين صورتها، وإنما أن مقولات 'ما بعد الحداثة' التي ظهرت بوصفها تنتمي إلى العصر، بأسئلتها ونقدها الجزئي، كانت، بشكل أو بآخر، نوعاً من الديكور. وهذا لا يقلل من أهميتها الثقافية في سياق الثقافة الغربية على الإطلاق، ولا دورها في تحليلاتٍ ثقافيةٍ في سياق الثقافة العربية. لكنها بدت خارج السياق، وهي تناقش تفاصيل جزئيةً في مجتمعاتنا، وكأنها أنجزت حداثةً مكتملةً، وباتت بحاجة إلى نقد النقد. في الوقت الذي لم تكتمل الحداثة في مجتمعاتنا، ما جعل جزءا من النقد للمجتمع الغربي يوظف في سياق أنه غير صالحٍ لذاته، بالضرورة فهو لن يكون صالحاً لنا. فمن المعلوم أن جوهر 'ما بعد الحداثة' يتحدّد بأنها رد فعل على الحداثة، فهي تضع المفاهيم والشعارات والقيم التي أنتجتها الحداثة مثل التنوير، التقدّم، العقلانية، الديموقراطية، العلمانية...إلخ موضع النقد والمساءلة، وتحاول تفكيكها لكشف نواقصها. وهذا ما يشغل كبار المفكرين في الغرب، وهم يتعاطون معها بصفتها قيماً راسخةً وثقيلةً وضاغطةً، ويسعون إلى زحزحتها إلى مزيد من الحرية.
هذا ما أسفرت عنه حداثةٌ عالية المستوى، اخترقت كل البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية
'كشفت الثورات العربية حجم المأزق السياسي والثقافي والاقتصادي والمجتمعي الذي وصل إليه العالم العربي' والاتجاهات الفكرية التي سادت الغرب. وإذا كان هذا هو الوضع في الغرب، فهو بالتأكيد ليس كذلك عندنا، فكل المقولات والمفاهيم والقيم التي تحاول 'ما بعد الحداثة' تقويضها لم نستطع امتلاكها بعد، وذلك ما يجعل مقولات 'ما بعد الحداثة' تعاني الاضطراب في الثقافة العربية. لا يمكن البدء من حيث انتهى الغرب، لأن ما أنجزه الغرب تم بعملية تاريخية تراكمية، أسفرت عن تطور مجتمع شامل ومفتوح، واللاحق يُبنى على السابق، ولا يقوم باستقلال عنه، ويشمل كل القطاعات: الاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة، فليست هناك وصفة سحرية يمكن البدء بها من النهاية. لذلك، على المجتمع العربي امتلاك منجزات الحداثة أولاً، واختراقها المجتمع أفقياً وعمودياً من ثم نقدها. وفي التجربة الغربية، ما كان فوكو ودريدا وباتاي ليكونوا من دون كانط وهيغل وغيرهما. وللإسراع، علينا اكتساب منجزات ما نريد أن نطويه كمرحلة، وليس بالضرورة أن نسير كما سار الغرب خطوةً خطوة. ولكن، من دون اكتساب هذه المنجزات، فنحن نفكّك مستويات ومظاهر حداثة هشّة لم تتجاوز قشرة المجتمع العربي، بحجة أن مقولات العقل والعلمانية والقراطية... عاجزة وقاصرة، فلا ضرر بالتخلي عنها، طالما أنها قاصرة. وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام جنون الإرهاب المنفلت من عقاله، وأمام كل الاتجاهات اللاعقلانية التي يموج بها الواقع العربي. وبما أن هذه المنجزات لم يكتسبها المجتمع العربي أصلاً، وهي مفاهيم مهزوزة مبهمة، فنحن لا نستطيع التحدّث عن قراطية أو عقلانية أو علمانية... بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي أننا لم نملك حداثةً حقيقية. لذلك، فما بعد حداثة رد فعل على حداثة عالية المستوى يأخذ منحى آخر مختلفاً عن ما بعد حداثة رد فعل على حداثة مشوهة وزائفة وكاذبة، فهي تفتح المجال واسعاً أمام اللاعقلانيات التي تخترق المجتمع العربي، وترسّخ القيم التقليدية.
ما بعد الحداثة ممثلة بنقد النقد تعمل على اقتحام المناطق التي كان العقل يرذلها، كالجنون والسجن والجنس، وهي بحثٌ في المناطق الهامشية، فقد جاءت بعدما استنفد بحث المناطق المركزية لعمله، وأخذ يوسع من دائرته في اللامعقول. وبصرف النظر، سواء كان المرء مع هذا العمل أم لا، فإنه يملك مشروعيةً في سياق الثقافة والمجتمع الغربي، وما وصل إليه من تطوّر، فهو لا يبحث في العلمانية والقراطية والدولة، إنها مؤسساتٌ راسخة، لها تاريخها المستقر، وتملك كل أسباب المشروعية، فهي ليست مهدّدة بالزوال. لذلك، يتم توسيع عمل العقل في مناطق أخرى، كالجنون والجنس والسجن وعلاقتها بهذه القيم، والخلل الذي ولده تاريخ استقرارها مع الهامشي في المجتمع. ومن الهامشي، يتم استنتاج قصور العقل عن العمل في
'ما بعد الحداثة ممثلة بنقد النقد تعمل على اقتحام المناطق التي كان العقل يرذلها، كالجنون والسجن والجنس' تفسير القضايا التي يطرحها الهامشي. لكن، في المجتمع العربي ومع الثورات العربية وحتى قبلها، تبين أنه لم تحسم القضايا المركزية بعد، عندما تحرّكت الاحتجاجات السلمية مطلع هذا العقد على سلطات شمولية، كان الرد المباشر وحشيةً دمويةً تنتمي إلى القرون الوسطى، لا إلى المجتمع الحديث. وتبيّن أن الحداثة هي أشكال مشوهة تتعايش مع أنماط الفكر التقليدي، هذا ما جعل كل شيء ينهار تقريباً مع تحدّي الثورات العربية، وتبيّن أن عمق الخراب أعمق من كل تصور. وهو ما يحتاج إلى العمل الطويل من أجل تحويلها إلى شيء راسخ ومستقر، فليست المشكلة في العالم العربي، على سبيل المثال، في استبداد القراطية، بل في الاستبداد الحقيقي العاري، أي ما قبل قراطي، وليست في السلطة المجرّدة للدولة التي تفرض سلطانها من خلال خطابات سلطوية، إنما في السلطة المشخّصة للدولة العربية ومصادرتها للمجتمع المدني وحكم أجهزة المخابرات.
من هنا، يجب العمل في القضايا المركزية للحداثة، الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية تشكيل الأحزاب والانتخابات الحرة للبرلمانات وحق التعبير عن الرأي من دون اعتقال... إلخ. إنها قضايا في المركز وليس في الهامش، وبغير ذلك تكون الكتابة خارج الموضوع، طالما اختار الكاتب ألا يقيم علاقةً مع السياق القائم للثقافة العربية. لذلك، ما هو طبيعي في سياقٍ يكون شاذّاً في سياق آخر، فعمل ما بعد الحداثة يتمثل في مواقع نقص الحداثة المتطورة، وهي تعبر عن نفسها من خلال موقف متشكّك ينبثق عن أوضاع مجتمع الرأسمالية المتقدمة التي أخذت تعيد النظر في أنظمتها. ويقوم هذا الموقف على التشكيك في التراث الفكري للقرن التاسع عشر، ممثلاً بالحركة النقدية البنيوية وما بعد البنيوية والنقد التفكيكي، ونقدها الجذري العلوم الاجتماعية والإنسانية ونظرية المعرفة. وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن عتمة الأنوار. لكن الحداثة في التجربة العربية أخذت الشكل المشوّه، وهي تعلن بوضوح عن العلاقات التقليدية والاستبدادية، وهي واضحة وضوح الشمس، فهي ما قبل حديثة أصلاً. لذلك، لا نحتاج إلى حفر لإظهار تواريها، فنحن نراها ونلمس وحشيتها في كل مكان حتى على جلودنا.

نيسان ـ نشر في 2017-01-19 الساعة 01:29

الكلمات الأكثر بحثاً