اتصل بنا
 

ديبا دارماسيري.. أيقونة الفقر والشقاء

نيسان ـ نشر في 2017-01-04

نيسان ـ

ديبا دارماسيري... سوف نحفظ جميعاً اسم هذه السيدة السريلانكية التي حطّت بها الأقدار، ذات يوم من التسعينيات، في لبنان، في عائلةٍ من صيدا بقيت في خدمتها أربع سنوات وأربعة أشهر، ثم رُحّلت عنها بشكل قسري إلى بلادها. سوف نحفظ قصّتها التي تشبه قصص الأفلام الميلودرامية، حيث المبالغة منهج وأسلوب، وحيث المفاجآت الكبيرة مخبّأة في معطف كل تفصيل، وحيث الحياة جداريةٌ عملاقةٌ مرسومةٌ بخطوط كبيرة وألوان نابية. لكنها هنا ليست خيالاً أو وهماً، وإنما الحقيقة والواقع، حين يتجاوزان أقصى حدود التأليف.
في حلقتين من برنامج 'أحمر بالخط العريض' اللتين بثّتهما شاشة 'إل بي سي' أسبوعين متتاليين، شاهدنا زينب بلوط تبحث عن أمها، المدعوّة ديبا دراماسيري، يعينها الإعلامي ومقدّم البرنامج، مالك مكتبي، الذي عمل عاماً كاملاً على تتبع خيوط قليلة واهية، لا تعدو اسم السيدة واسم بلدةٍ يُفترض أن تكون ديبا من سكانها. لا تملك زينب سوى ورقتين، لا تدري كيف تحصّل زوجها حسين عليهما، هما ورقة زواج أبيها من ديبا ثم طلاقه منها بعد عدة أيام، وأخرى تحمل تاريخ ترحيلها، إثر إنجابها زينب في مستشفى في صيدا.
بعد تقصٍّ وبحثٍ، وعدد من الطرق المسدودة المُفضية إلى خيباتٍ، سوف تسافر زينب، بصحبة زوجها حسين ومعدّ البرنامج ومقدّمه، إلى سريلانكا. وبعد طلب المعونة من السلطات المحلية، سيتم العثور على ديبا، وقد بلغت الخمسين من عمرها، مقعدةً على كرسي متحرّك وسط بيت متواضع صغير، حليقة الشعر، يملأ الذباب رأسها، وهي تعاني من مرضٍ خبيث في بطنها. ستعثر زينب على أمها أخيراً بعد طول بحثٍ ومعاناة، وستكتشف ديبا الابنةَ التي حملت بها، وانتُزعت منها منذ 25 عاما، إثر تهديدها بالسكّين واغتصابها من والد زينب. أجل، تزوج الأب ديبا ثم طلّقها ليحظى بالابنة، وقد أخفى عن الأخيرة الحقيقة، وأوهمها أن زوجته هي أمها.
في صورة ديبا المستسلمة لشقاء عمرها، والمستسلمة لكشف السرّ الذي أخفته عن الجميع، والمستسلمة أخيراً لأمومتها لهذه الابنة التي عادت إليها فقط، بسبب إصرارها على لقاء والدتها الحقيقية، حرقة لا تمكن مقاومتها، وغصّة تتشبث بحناجرنا، نحن الشاهدون على بؤسٍ خافت، خفيض، لا يصرخ ولا يتلوّى ولا يتفجّع، بل يبدو وكأنه قد تجاوز نفسه، ليصبح ما بعد الحزن واليأس بكثير. وعلى الرغم من إطالات البرنامج، هنّاته العديدة واستثارته المشاعر، سوف يبقى وجه ديبا، الغارقة لحظاتٍ في مياه ذكرياتها، محفوراً في ضمائرنا، أشبه بأيقونةٍ من أيقونات القدّيسين الذين طهّرتهم عذاباتهم وآلامهم، وحوّلت ملامح وجوههم في لحظات تجلٍّ، ترفع الإنسانيّ إلى مصافّ الإلهيّ.
وجه ديبا الصامت، المتفكّر في ماضيها حين يُكشف لها السبب من زيارتها اليوم، عيناها الواسعتان الغارقتان في محجريهما، فمها المكتنز المُطبق، بشرتها الشاحبة ورأسها الحليق، جعلتها تبدو مثيلة منحوتةٍ فنيةٍ، تجسّد كل ما تخفيه الروحُ البشرية من ضنكٍ وأسى. فقد بدا وجهها وهلة كوجه المصلوب، منحوتاً بالألم، متعالياً في صمته، عارياً في وجعه، رحباً في بؤسه، عارفاً في استسلامه، وجميلاً حدّ الإيلام. وحين دخلت عليها زينب الغارقة في دموعها، الخائفة من التقدّم نحوها ولمسها، مدّت ديبا يدها تنتظر، وهي تلهج بكلماتٍ من لغتها المغلقة، حتى انهارت زينب على قدميها كمريم العذراء، بعد أن عرفت أنها ثمرة اغتصاب أبيها لأمها، وأنها قد وصلت متأخرةً، لأن مثل هذا الشقاء يأكل الأحشاء، ولا يُكافأ ولا يعوَّض عنه.
بعد مضي 42 يوماً على لقاء زينب بأمَها ديبا، فارقت هذي الأخيرة الحياة. فتلك هي النهايات 'السعيدة' التي يعرفها أشقياء هذي الأرض وملعونوها، هم الذين يرحلون خاليي الوفاض من أي حقد، من كل غضبٍ أو رغبةٍ في الانتقام. عشرات المئات من ديبا يستفقن في أعيننا الآن.

نيسان ـ نشر في 2017-01-04

الكلمات الأكثر بحثاً