اتصل بنا
 

مع وقف التنفيذ

نيسان ـ نشر في 2016-12-27 الساعة 01:36

نيسان ـ

لعله الدور الأجمل والأكثر عمقاً وصعوبةً في مسيرته الفنية الطويلة الحافلة، والمتنوعة بالأدوار الصعبة والمركّبة، حيث أبدع على الدوام في تقمص ملامح الشخصية، وارتدائها بشكل مقنع، بما يدفع المتلقي إلى تصديقه على الفور. تأكد حضور الممثل الفذ روبرت دينيرو الحائز على جائزة أوسكار مرتين واحداً من علامات 'هوليود' الفارقة، في فيلم 'صائد الغزلان' الذي تناول بالإدانة حرب فيتنام، وفي فيلم 'العراب' في جزئه الثاني، وفيلم آخر لم يحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، جسّد فيه دينيرو دور فرانكشنتاين المخلوق الأسطوري المعذب، فأجاد وتألق.
لم يختلف الأمر في الأفلام الخفيفة الكوميدية مثل 'حلل هذا' و'حلل ذاك' و'عائلة فوكر' بجزأيه، وغيرها الكثير. كان روبرت دينيرو فيها في قمة العفوية والجمال وخفة الظل، كوميداناً متمرساً خطيراً، كما أنه ظل محافظاً على صعودٍ لافت، وتطويرٍ ملموسٍ لأدواته الدرامية، بما يتلاءم مع تقدمه في العمر. ويعد دوره في فيلمه الشهير 'الصحوات' في 1990 من أكثر الأدوار تعقيداً وغرائبية، بل أهم أدواره من وجهة نظري، حيث أبدع الفنان الكبير في تجسيد الحكاية العبقرية للمريض الذي سقط في الغيبوبة ما يزيد على الثلاثين عاما، بمعنى أنه توارى عن الحياة في غيبوبة طويلة، وهو طفل لم يتجاوز العاشرة من العمر، ليصحو رجلاً بلغ منتصف العمر، مسكونا بهاجس الاكتشاف والمعرفة.
بسببٍ من اكتراث والدته التي لازمته في سنوات الغياب، والاتكاء على أجهزة التنفس والتغذية، مواظبة على القراءة على مسمعه، مختارة له أهم العناوين في الأدب والفلسفة والفكر والجمال، غير ملتفتةٍ إلى الآراء الطبية التي تؤكّد عدم استفادته من الوجبات المعرفية التي أصرّت الأم المتفانية على مدها للجسد المسجّى بلا حراك.
استيقظ رونالد رجلاً على قدر كبير من المعرفة، متميزا بنزعة فلسفية تأملية، متمتعاً بشخصية محبوبة ذات حضور مؤثر بالمحيطين من مرضى وأطباء وزوار، ذلك أنه لم يبارح المستشفى، حتى بعد صحوته، إذ أصرّت إدارة المستشفى على إبقائه قيد المراقبة الحثيثة. وإذا تمكّنا من تجاوز الأداء العبقري لدنيرو في تقديم هذه الشخصية المركّبة غير العادية، يصبح بالإمكان تأمل البعد الجمالي لفكرة الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة التي نغفلها في غمرة الانهماك الآلي، وهي التي تعطي الحياة بعدها الحقيقي الأكثر رحابة.
يحسّ رونالد الذي فقد سنوات كثيرة سدى، بحكم المرض النادر اللعين، بالغبن الذي لحق به، غير أن إحساسه ذلك يعمق رغبته في تعويض ما فات من سنين واستدراكها، فينشغل في تذوق مفردات الجمال المتاحة في الحياة، وكذلك في التأثير إيجاباً في حيوات من حوله، حين يبشر بأهمية الحب والحرية قيمتين أساسيتين.
نجح رونالد في إحداث تغييرات جذرية في شخصية الطبيب المغامر الذي لعب دوره باقتدار كبير الممثل المدهش الجميل الذي رحل عن عالمنا قبل عامين منتحراً، روبن ويليامز، حيث نرقب التحول التدريجي في شخصية هذا الطبيب المثابر من محض موسوعة علمية تمشي على قدمين إلى شخص بسيط مذعور، لا ينكر هشاشته وضعفه الإنساني.
طرح رونالد، ببساطة وعفوية، أفكارا صدمت الآخرين، وكشفت لهم الخواء الذي يعتري حيواتهم، إذ لفت نظرهم إلى حجم الخسارات التي يتكبّدونها، حين يقضون أعمارهم في اللهاث وراء مكتسباتٍ إضافية، من دون أن يتاح لهم التعامل مع الأشياء بروية وعمق.
تنتهي أحداث الفيلم بفشل مغامرة الطبيب الاحتفاظ برونالد على قيد الصحو، فعلى الرغم من مقاومته الشديدة، يعود إلى عالم الغياب والصمت المطبق، ويخلف إحساساً بالخيبة لدى المشاهد الذي عايش بلهفةٍ لحظات اليقظة الباهرة، وقد يشعر بالغيظ لأن الفرح بالعودة إلى الوعي سرعان ما يزول، إذ تتصلب ملامح رونالد، ويتخشب جسده الذي يصبح أكثر قرباً لهيئة التمثال في لحظة ذعر أبدية . إنسان منكوب تنقصه مقومات الوجود كلها يؤكد إحساسنا بالخسارة في صفقة الحياة العبثية.
وبعد استيعاب جمالياتٍ كثيرةٍ، يتميز بها هذا الفيلم، سوف يستقر في ذهن المشاهد سؤال كبير، تخلفه الوقائع وتدفعه إلى الخشية من مجرّد التفكير بكم الأيام والسنوات التي مرّت عليه، من دون أن يلحظ أنه مضى في دروب الحياة فاقداً الإحساس بلذة العيش، ولم يكن، في واقع الأمر، أقل غياباً من رونالد الذي زار الحياة بشكل طارئ، ليمكث فيها أخيراً، تمثالاً من لحم حي نابض، مع وقف التنفيذ.

نيسان ـ نشر في 2016-12-27 الساعة 01:36

الكلمات الأكثر بحثاً