اتصل بنا
 

راجعين يا هوا

نيسان ـ نشر في 2016-12-20 الساعة 04:18

نيسان ـ

كأنها النكبة. الخروج. الحلم بالعودة والوعد بها. ولكن، من دون مفاتيح على الأغلب. فلا معنى لحمل مفاتيح بيوتٍ لم تعد موجودة على وجه الأرض. لا معنى لترك طبخةٍ على النار، إذ لم تكن هناك طبخة. ولكن، كانت هناك نيران التهمت كل شيء. مع ذلك يكتبون على الجدران، والقلوب، راجعين يا هوا. هذا ما يفعله واحدٌ نيابة عن مدينة. لا ضرورة لكثيرٍ من الكتابة. واحدٌ يختصر الكل. حائطٌ واحدٌ لا يزال في الوسع الكتابة عليه، ينوب عن جدرانٍ سقطت وعادت إلى مادتها الأولى. قلت كأنها النكبة. مجرّد تسطير هذه الكلمة يحضر العدو. فماذا نسمّي من يجرّدون حلب مما يجعلها مدينةً، ويجعلها قابلةً للسكنى، ويجعلها مجالاً للاجتماع البشري، على النحو الذي تلحظه كلمة مدينة في تاريخ العمران. ماذا نسميهم؟
كنا قادرين على التسمية. كان العدو واضحاً، والتسمية ممكنةً ولائقةً بالمسمّى. كان القاموس محدوداً: ثلاثة أو أربعة ألفاظ. وكان ذلك كافياً لوصف كل شيء. لا حاجة للمزيد. من يستطيع أن يزيد على كلمة عدو؟ لا أحد. لا مجال لاستزادة. غير أن ما يجري اليوم في حلب القتيلة، وسورية المثخنة بالجراح، يستعصي على التسمية، إن أردنا تجاوز قاموس التنابز السائد. أي مأساة أن يتقزَّم العدو، وتتضاءل أفعاله، ويرتد إلى الوراء، عندما تحضر حلب المكللة، مثل المسيح، بالشوك والدم والخذلان؟ أليس هذا أقسى ما تُمتحن به اللغة؟ وأقسى ما تُمتحن به المعاني؟ بل، وقبل كل شيء، أقسى ما تُمتحن به المشاعر؟ لن أدير وجهي إلى الجهة الأخرى، حيث يتحول الموت إلى حياة والهزيمة الإنسانية المريعة إلى انتصار، والخيانة الوطنية إلى مقاومة. لن أفعل. فعلى ذلك الجانب من الجرح ينقلب كل شيء إلى ضدّه، بل يصبح كاريكاتوراً مسخاً للوحشية، وانتهاكاً لدستورها. إذ حتى الوحشية لها حدّ تقف عنده.
لا كلمة 'الثورة' كافية ليحلّ بحلب ما حلّ بها ولا 'التحرير'. هاتان كلمتان مزوّرتان في واقع حلب، بل في الواقع السوري كله. فلم تعد هناك ثورةٌ مذ تم دحر هبوب الشباب وخروجهم الجماعي إلى الساحات العامة، وطردهم إلى الخارج، إلقاؤهم في السجون، إعدامهم جماعياً، وإحلال قوى نظيرة للنظام الوحشي، ومماثلة له، في 'الساحة'، أما التحرير فلا شبيه له إلا الاحتلال. ولم يكن صعباً على شرائح سورية واسعة أن تصف ما يجري بالاحتلال، أياً كانت وجوه الذين يتقدمون من المدن والبلدات المحاصرة. أياً كانت الرايات التي يرفعونها، فقد تساوت راية الدولة براية المليشيا. هذا هو رأيي. ولا انحياز لي في هذه الحرب إلا للسوريين، من بقي منهم، ومن ملأ طرقات العالم. هؤلاء هم الضحايا. وهم الذين يملكون كلمة الحق. لا طرف غيرهم. هم الذين دارت عليهم المحن، وباسمهم، من جانبي الخندق. وهم الذين كتبوا: راجعين يا هوا، بما تخزَّن في أسماعهم من أغنيات الصباح الفيروزية، السورية بامتياز. قلت من قبل كأنها النكبة. وهذا ما طُرح على صادق جلال العظم، في آخر حواراته المنشورة عندنا (ضفة ثالثة). على الرغم من كل هذا التهجير القسري الهائل، لم يقبل العظم، الدمشقي ابن الدمشقي، هذا الوصف. قال إنه ليس لدى السوريين، الذين هُجّروا، شعورٌ بأنهم فقدوا وطنهم، مثلما كان عليه الحال عند الفلسطينيين. تنبأ المفكر السوري الكبير الراحل بأن قسماً كبيراً من هؤلاء سيعودون. وكاد يقول إنه، هو نفسه، سيعود.. لكنه استدرك: لا أظن أنني سأعيش حتى تلك اللحظة بسبب وضعي الصحي. صدقت يا صادق جلال العظم. على الأقل في الشق الأخير، للأسف. -

نيسان ـ نشر في 2016-12-20 الساعة 04:18

الكلمات الأكثر بحثاً