اتصل بنا
 

العبدة التي صارت قدّيسة

نيسان ـ نشر في 2017-11-21 الساعة 14:07

نيسان ـ

'بخيتة'. هذا هو اسم الرواية التي كتبتها الفرنسية فيرونيك أولمي، وروت فيها قصة طفلةٍ من مواليد قرية صغيرة في إقليم دارفور، في السودان. حين بلغت بخيتة الخامسة، هاجم رجالٌ أغرابٌ القرية، وأضرموا فيها النيران، فقتلوا وحرقوا واختطفوا أختها الكبرى، وكانت متزوجة، وأمّا ولها من العمر 14 عاما. كان هؤلاء من تجّار العبيد، فاستمرّت القرية تحيا في الترقّب والخوف.
مرّ عامان، وها إنّ الصغيرة يختطفها رجلان سيذهبان بها بعيدا، بغية بيعها. 5+2 = 7. هذا كان عمر بخيتة آنذاك، وكنا في العام 1876. في الواقع، لم يكن بخيتة هو اسمها الحقيقي. هكذا سمّاها تجّار العبيد، بعدما نسيت الطفلة اسم قريتها ولاحقا اسمها ولغتها، بعد كل ما عانته من حرمان وإذلال وتعذيب وقيود و...
ذات يوم، تعرّفت بخيتة العبدة إلى بيناه العبدة، فأصبحتا صديقتين متلازمتين. 'لن أترك يدكِ'، هذا كان شعارهما، لازمتهما. ثم ذات يوم آخر، قرّرتا الهرب، وراحتا تركضان ساعاتٍ طوالا، قبل أن تختبئا من الوحوش الكاسرة في شجرة. لكنهما وقعتا لاحقا في يدي تاجرٍ جديد، حبسهما في حظيرة ماعز، قبل أن يبيعهما إلى قافلةٍ تضم عشرات العبيد المنهكين، الجائعين، الذين يتقدّمون على وقع ضربات السياط، نحو سوق النخاسة في العُبيد، حيث سيشتري ثريّ عربيّ بخيتة هديةً إلى بناته.
هناك، ستعاني ابنة السودان الأمرّين، عنفٌ جسديٌّ وقسوةٌ لا مثيل لهما، لتنتقل من ثم إلى بيت قائد تركي ستقوم زوجته بوشمها، وهو ما سيتسبب لها بجراحٍ ستترك آثارها على جسدها كلّه. قصة بخيتة مع العذاب طويلة جدا، وبعضها سيبقى سرا يموت معها، كما هي قصص العبيد في كل زمان ومكان. إلا أن الصغيرة ما زالت تأمل بلقيا أختها الكبرى، خلال رحلات بيعها أو شرائها من سوق العبيد. لقد أضاعت صديقتها بيناه منذ زمن بعيد، وها هي وحيدةٌ في 'عالم ثائر يفترس نفسه بنفسه'، تنتقل شبه 'عاريةٍ' من شارٍ إلى آخر، ومن جلاد إلى آخر، شاعرة 'بذلك العار المستدام'.
لكن، في الرابعة عشرة من عمرها، عند وصولها إلى بيت القنصل الإيطالي في الخرطوم، سينيور لينياني، سوف يغسلونها ويعطونها قميصا أبيض، وهو الشيء الوحيد ربما الذي 'امتلكته وحدها'، والمكان الوحيد الذي ستعرف فيه استراحةً من عذاباتها وضنكها، والذي بفضل تضحياتها فيه طوال عامين، سوف تبلغ إيطاليا مع أسيادها. في البندقية، يتبنّاها المشرف على أعمال سيّدها، وهو رجل تقي ومؤمن، فيقرّر إدخالها الدير لتعليمها. وبعد عامين، حين ستأتي سيدتها لاستردادها، ستجيبها بخيتة بصوت حازم رخيم: 'لا، لن أخرج، سوف أبقى هنا'.
لتحريرها من العبودية، واستعادة حريتها، ستلجأ مسؤولة الدير إلى القضاء، وهو ما سيشغل الرأي العام آنذاك. عام 1893، رُسمت بخيتة راهبةً، وراحت تهتم بالأطفال المحرومين طوال حياتها، ما جعلها تحمل لقب 'الأم الصغيرة السوداء'، كما سمّاها الإيطاليون. لقد أطلعت بخيتة الدير على مسارها كلّه، روت ماضيها، ذكرياتها أو ما تبقى منها، فتحوّلت سيرتها كتابا بعنوان 'القصة الرائعة'، نشر في إيطاليا عام 1931 وعرف يومها انتشارا كبيرا جدا، إذ حكى سيرة حياة المرأة التي تحمّلت كل المصاعب، ونجت من كل الأخطار. توفيت الأخت بخيتة عام 1974، وفي 1992، طوّبها البابا القدّيسة جوزفينا بخيتة.
هذا كلّه روته الكاتبة فيرونيك أولمي في روايةٍ صدرت هذا العام، وأدخلت عدة قوائم لعدة جوائز أدبية رفيعة (فازت بجائزة فناك للرواية) لموضوعها الاستثنائي، وقدرة الروائية على منح صوت لعذابات العبودية التي تفوق ربما في فظاعاتها كل العذابات، إذ ما الذي يعنيه أن يستعبد إنسانٌ إنسانا آخر، ماضيا في سلبه حياته إلى النهايات؟ هذا وتضفي الروائية نفسا ملحميا على حياة بخيتة التي تبدو كأنها اجتازت تقلّبات القرن الماضي بأكمله، العبودية، الاستعمار وأنواع تجاراته، الصراعات العالمية، صعود الفاشية، .. إلخ.، وتمكّنت، على الرغم من كل شيء، من الإبقاء على إنسانيتها الدفينة، على مقدرتها على الحب والعطاء، لا بل على حرية روحها.

نيسان ـ نشر في 2017-11-21 الساعة 14:07


رأي: نجوى بركات

الكلمات الأكثر بحثاً