اتصل بنا
 

يا له من يوم كريه وعادل

نيسان ـ نشر في 2017-11-20 الساعة 12:18

نيسان ـ

عندما نعود إلى الكتب، الحوادث التاريخية، فنحن لا نبحث عن تطابقٍ بين حادثة متخيلة، أو واقعية جرت في الماضي، وما يحدث في اللحظة الراهنة، إذ لا يعيد التاريخ نفسه. ليس تماماً، ليس بالحذافير. لا بدَّ من انزياح ، نقصان، زيادة، بين الواقعة التاريخية (المتخيلة أو الواقعية) والواقعة التي نعاينها. لكننا كائنات تاريخية. ليس فقط بما يجري علينا من تغيّر، وإنما بما نعيشه من الماضي والحاضر في البرهة نفسها. يستحيل فصل ماضينا عن حاضرنا. فاقدو الذاكرة فقط يتمتعون بهذه 'النعمة'، أو النقمة. الذاكرة لنا دائماً بالمرصاد. العودة إلى التواريخ تبحث عن عبرةٍ ليس إلا. لكن العِبَر تمرُّ مرور الكرام. فمن يستفيد حقاً من عِبْرةٍ؟ شخصياً لم أفلح في ذلك، إذ يجرفني تيار اللحظة في مجراه. إغواء اللحظة الراهنة، قوة التيار، يصعب مقاومتهما. لن نقول لأنفسنا: هيا نستخلص العبرة ممن مروا بلحظة كهذه!
في مسرحية 'ماكبث' لشكسبير، يقول ماكبث لرفيقه بانكو، وهو يمسح مسرح المعركة بعينيه: لم أر يوماً كريهاً وعادلاً كهذا في حياتي. وقبل ذلك، تقول الساحرات الثلاث اللواتي يرمين نبوءاتهن في وجه القائد ماكبث، المرصود لأقدار درامية: الكريه عادل، والعادل كريه. كلام ماكبث، إذن، صدى لـ 'حكمة' الساحرات التي صيغت على نحو يذهب مثلاَ.
في دراما محمد بن سلمان، التي تُرجِّع، صراعات العروش، يحضر شكسبير. فهذا الشاعر الإنكليزي العظيم قد يكون أكثر من وقف على تراجيديات الحُكم. أكثر من رأى الدماء 'تلمع في ليل الوقيعة'. ليس هناك شاعر، أو كاتب، تغلغل في دماغ السلطة وقلبها، كما فعل شكسبير الذي قلَّب نوازعها ودوافعها، كما تفعل الجراحة المجهرية. لقد أدخل مسباره في التلافيف والزوايا المعتمة، ليرى ما هو كامن فيها من التواءات وأورام، ونتوءات، فطالعنا بالجشع، الطمع، الإغواء، الشهوة، التملّك، الخيانة، التي تنطوي عليها السلطة. بحضور السلطة، تحضر عناصر الطبيعة: الرعد، العواصف، الظلمة، وغير الطبيعية: الأشباح، الساحرات، أطياف الموتى، الكوابيس.
لا عرش لديه من دون دم، أو خيانة، مؤامرة، أو دسيسة. إنه عالمٌ تكاد تغلب فيه قوى الظلام قوى النور. الليل أقوى من النهار. الزوايا المعتمة تتغلب على ساحات المعارك وحلبات النقاش. تبيح السلطة، بالمعنى الشكسبيري، ما ليس مباحاً، وتسمح بما ليس مسموحاً في الأحوال العادية. فالسلطة ليست أمراً عادياً. لا يصل إليها الفارس على صهوة جواده، ولا المحارب بآثار الطعان على دروعه، ولا الخطيب ببلاغته. هناك ممرٌ معتمٌ آخر يؤدي إليها: إنها السراديب، والأركان المعتمة، والكواليس. نرى هذا في دراما محمد بن سلمان. فلكي تستتب له السلطة، لا بدَّ من حضور شكسبيري: المؤامرة، التهم التي لا تحقيق فيها، الأقارب الذين يكونون أول الضحايا، المنافسون الذين يُدَاهَمون في مخادعهم، بغتةً، ويقودهم الحرس في ثياب النوم، الدعاوى النبيلة: الكريه العادل، والعادل الكريه. إنه الصالح العام الذي يُرفع عَلماً في وجه المفتئتين عليه، في وجه المتطاولين، حتى لو كان هؤلاء من أقرب الناس.
لا حاكم يقول إنه يأتي الى السلطة من أجل أن يأتي إلى السلطة. لا بدَّ من دعاوى نبيلة تستر عورة الشهوة. لا بدَّ من ورقة توتٍ تغطي الرغبة الدفينة في الاستثئار. محتملٌ أن محمد بن سلمان قال لنفسه، وهو يقود أبناء عمومته إلى القيد: يوم كريه وعادل كهذا لم أر في حياتي. وقد يرى أنه أكره على هذا اليوم، ولكن لا بدَّ من الكريه لصالح العادل.
التاريخ يسجل العِبَر، لكنها تمرُّ من أمام الناس مرور الكرام. فمن عِبَرِ شكسبير أن أركان الانقلاب على السلطة، أو الاستيلاء عليها، ينتهون نهاية بائسة. فالحاكم لا يحب أن يرى آثار أفعاله في وجه المحيطين به. لا يريد شهوداً. على الشهود أن يختفوا. وعلى المشاركين في الاستيلاء على السلطة أن يُزاحوا، لأنهم، في خيال الحاكم الذي ستتكالب عليه الأشباح والأطياف، قد يفعلونها مع طامع جديد بالعرش.
ففي 'ماكبث' ينتهي رفيقه 'بانكو' إلى الموت مع ابنه.
لكننا سنظل نسمع صوت 'بانكو' يقول: للأرض فقاعاتٌ كما للماء.

نيسان ـ نشر في 2017-11-20 الساعة 12:18


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً