اتصل بنا
 

رائحة الكتب

نيسان ـ نشر في 2017-11-13 الساعة 14:44

نيسان ـ

أبقى في عمَّان التي تحدثت عن جبلها الأيقوني (اللويبدة) الأسبوع الماضي. قلت، من قبل، إن عمَّان لم تكن مدينتي. ليست المدينة التي ولدت بها، ولا التي درست في مدارسها، ولا التي شبَّت في شوارعها خطاي. مدينتي، على هذا الصعيد، هي الزرقاء. إن كانت عمَّان استمدت اسمها الحالي من تاريخها القديم، العمّوني، تحديداً حيث كانت تسمى 'ربَّة عمّون'، وهو كنعاني (أو ربما آرامي)، فإن الزرقاء تستمد اسمها، هي أيضاً، من ذلك الأصل البعيد. فقد كانت تدعى 'زار كي'، أو شيئا شبيها بهذا النطق، وتعني، باللغة الأكدية، مدينة المياه. وليس صعباً لحظ ترابط الزرقة بالماء. كما يمكن لحظ الترابط بين 'ربَّة' التي تعني في ما تعني، بالعربية، الدار الكبيرة، فضلا ًعن أنها مؤنث ربّ. ويخيّل إلي أن اسمها كان يعني: دار العمّونيين الكبيرة، فقد كانت عاصمتهم وكرسي حكمهم. أما زرقة الزرقاء فتعود، على الأرجح، إلى كثرة مياهها، في تلك الأزمنة، فمن جانبها الغربي يمرُّ نهر الزرقاء الذي أدركته، في طفولتي، سيلاً كبيراً، عرماً في فصل الشتاء. وقد أخبرنا جدي، العسكري في جيش الأمير عبد الله، أنه كان موئلاً للوحوش، ولا يذهب إليه الخيَّال من دون سلاح. مدينتي الحقيقية الاولى هي الزرقاء. أما عمَّان فلم تكن سوى محطة عبورٍ إلى أمكنةٍ طفقت تتناسل، وتتباعد. غير جبل اللويبدة الذي أزوره كلما ذهبت إلى عمَّان، هناك وسط البلد. قلب المدينة الخافق الذي تنزل إليه، من اللويبدة، وجبال أخرى، بسلالم حجرية لم تبرحها الخطى. ما يثيرني في وسط البلد مكتباته القديمة التي لم تتغير أسماؤها، ولا مواقعها إلى يومنا هذا. من يرِدْ أن يعود إلى زمن السبعيينات، أو ربما الستينيات، عليه الذهاب إلى هذه المكتبات الصادمة، على الرغم من التغيرات الكبيرة التي طرأت على المكان.
فهي لا تزال موجودة على النحو الذي عرفتها فيه قبل نحو 40 سنة، وفي مواقعها التي تتوضع في شارعين أو ثلاثة. كلما أكون في عمان أذهب إلى هذه المكتبات، وأجد فيها من الكتب ما لا أجده في المكتبات الحديثة. في واحدةٍ من هذه المكتبات الكبيرة، وجدت صاحبها الذي أعرفه، بالوجه، مذ كنت أتردد إليها لشراء كتاب، أو لمجرد الاطلاع على ما وصل حديثا من كتب وقرطاسية. حدّق بي الرجل الذي أصبح عجوزاً، كأنه يحاول أن يتذكَّر أين رآني. كأنَّ وجهي بدا له أليفاً، ولكن من دون أن يعرف متى رآه.
لمكتبات وسط البلد رائحة الكتب والورق القديم ودخان السجائر. غريبةٌ رائحة الورق المطبوع، كأنَّ لكل كتاب رائحة خاصة به، لا تتظهَّر إلا بمرور الوقت. يمكن أن تجد في هذه المكتبات كتباً لم تُطبع ثانيةً، كتباً منسية، ومؤلفين مجهولين من قراء اليوم. هناك طبعاتٌ يرقى عمرها إلى أربعين، خمسين سنة، وربما أبعد. تبدو على الرفوف كأنها لم تتحرّك من هناك. يبدو ذلك من الغبار الذي يعلوها، ويحدِّد حيّزها على الرف. واضحٌ أن يداً لم تمتد إليها، بما في ذلك من ينظِّف المكتبة، مذ وضعت هناك أول مرة.
أفكِّر: ماذا يعني ذلك؟ هل هذه عراقة، أم خذلانٌ وتركٌ للمصير الذي تؤول إليه كلُّ الأشياء: غبار؟ تثير هذه الكتب التي لم تتحرّك من رفوفها النجوى، أو الأسى. إن لم تكن الكتب تبيع، وتدخل في 'حركة السوق'، أياً كان حجمها ونطاقها، فكيف استمرت هذه المكتبات كل هذي السنين، ولا يزال على رفوفها كتبٌ صدرت منذ أربعين، خمسين سنة؟
يبدو لي أن أصحاب هذه المكتبات قد هرموا، وهم يجلسون وراء طاولاتهم، ذات الخشب الثقيل، يشربون الشاي، أو القهوة التي يأتي بها صبيانٌ من المقاهي العديدة المجاورة، يدخنون ببطء، من دون أن يظهر عليهم ضجر تكرار الحركات نفسها، أو ما يرزحون تحته من ثبات. كأنَّ الزمن لا يمر. ها هي علاماته الأكيدة على الرفوف. في الغبار الساكن. لا تفشل هذه المكتبات الصامدة في وجه العصف الذي بعثر عمَّان، إلى عمَّاناتٍ عديدةٍ ومتباعدة، في إثارة الحنين إلى زمنٍ كنت فيه شاباً لم يبلغ العشرين بعدُ، يودُ أن يلتهم هذه الكتب التي تنطوي على عجائب وكنوز وسير حياة وتواريخ مجهولة، لا تكشفها إلا القراءة. كان ذلك الشاب يحلم، أيضاً، أن يكون له كتاب، ذات يوم، بينها، ولكن هذا لم يحصل. فتلك الكتب لا تبرح موقعها، ولا تتركه إلى كتب جديدة.

نيسان ـ نشر في 2017-11-13 الساعة 14:44


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً