اتصل بنا
 

بين ثقافتين

نيسان ـ نشر في 2017-06-04 الساعة 13:26

وزيرا للثقافة، أجاب: أنا لم أعينه وزيرا للثقافة، بل لأنه كاتب وروائي ومفكر ومثقف حقيقي. وهذا ما يفتقده وزراء الثقافة في العراق، فهم يجهلون تفاصيل الواقع الثقافي وتاريخ الثقافة ومنتجيها ومستهلكيها ويجهلون حاضرها ورؤى مستقبلها، وجيء بهم لتكملة النصاب الطائفي والعرقي في بلاد يتقاسمها اللصوص.
نيسان ـ

أستعير عبارة الكاتب الإسباني خورخي سيمبرون البليغة “الذي لا يوصف هو ما لا يمكن السكوت عنه” وأنا أتحدث عن وزراء الثقافة في العراق الذين يشكلون ظاهرة يتعذر السكوت عنها ولا جدوى من نقدها إذ أمست واقعا هزليا علينا تقبله، فمعظم الذين تناوبوا على إدارة الثقافة عندنا يجهلون تفاصيل الواقع الثقافي وتاريخ الثقافة ومنتجيها ومستهلكيها ويجهلون حاضرها ورؤى مستقبلها، وجيء بهم لتكملة النصاب الطائفي والعرقي في بلاد يتقاسمها اللصوص.

كان الكاتب الإسباني خورخي سيمبرون وزيرا للثقافة في الحكومة الاشتراكية سنة 1988 وعمل بعد رحيل فرانكو مع المثقفين الإسبان مختلفي الاختصاصات على إعادة بناء الثقافة في الأجواء الديمقراطية الجديدة، ورغم نجاحه في مهمته إلا أنه جوبه بامتعاض الحكومة الاشتراكية، فقد أزعجها أفقه المستقل ورؤاه الثقافية الحرة التي تجاوز فيها المنظور الاشتراكي المقنن للثقافة، فقدم استقالته وعاد للانغماس في كتابة سيناريوهات الأفلام والرواية.

لم يكن سيمبرون من مدّعي النضال والمظلومية كما يفعل الطارئون على الثقافة والسياسة في العراق، لأنه ببساطة كان مثقفا أصيلا ومعارضا حقيقيا لفرانكو وانضم أثناء الحرب العالمية الثانية إلى المقاومة الفرنسية، فاعتقلته قوات الاحتلال النازي مع من اعتقلت وأودع في معسكر اعتقال بوخنوالد سيء الصيت، وكان من الناجين القلائل الذين حرروا بعد انتهاء الحرب.

عاد سيمبرون إلى إسبانيا و كتب عن فظائع معسكرات الاعتقال كسيناريو سينمائي ونشر نحو عشرين عملا روائيا من بينها “السفر الكبير” و”الإعياء” و”الموت الثاني”، وأنجز سيناريوهات لأفلام شهيرة من بينها “زد” و”الاغتيال” و”الاعتراف”، وغير هذا الكثير فاعتمدته الحكومة الاشتراكية وزيرا للثقافة لتعدد خبراته الثقافية ومثله كان اندريه مارلو الروائي والمفكر والباحث في فنون الحضارات المختلفة ووزير ثقافة ديغولي، كان اشتراكيا مناهضا لنزعة بلاده الاستعمارية وعندما ذهب إلى الهند الصينية أسس صحيفة معارضة للاستعمار الفرنسي، وتجول في بلدان كثيرة بحثا عن الفن والآثار، وما لبث بعد سنوات أن شارك في الحرب الأهلية الإسبانية ضد فرانكو وإثر هزيمة ألمانيا وزوال الاحتلال النازي لفرنسا عينه الجنرال ديغول وزيرا للثقافة.

عندما سئل الجنرال ديغول عن المغامرة التي أقدم عليها بتعيين الكاتب الروائي والمفكر الاشتراكي اندريه مارلو وزيرا للثقافة في وزارة اليمين الديغولي إثر الدمار الذي لحق بفرنسا بعد الاحتلال النازي لها، رد الجنرال ديغول بهدوء وثقة كبيرة ”نحن الآن بحاجة ماسة إلى وجوده، فهو الذي سيبادر لإعادة بناء المجتمع الفرنسي؛ فالثقافة هي الأساس الصلب في عملية البناء”.

الجنرال ديغول -كرجل دولة وقائد متمرس- كان يعلم خطورة الثقافة في إعادة بناء المجتمع بعد كارثة الاحتلال مدركاً أن بقاء فرنسا في مقدمة دول العالم يستدعي حراكا ثقافيا يميزها عن سواها، فبعد صمت المدافع وتحرير فرنسا كان لا بد من ترميم الذاكرة بروح جديدة معاصرة تتجاوز جراح الماضي وأوضار الحروب، ولا يحقق عملية الترميم سوى الكتاب والفيلم والموسيقى والأوبرا والفن التشكيلي.

بعد عقود أتى فريدريك ميتران وزير الثقافة الفرنسي في عهد ساركوزي ليعيد أمثولة مالرو في اعتماد الثقافة أساسا لحماية ذاكرة بلاده من الانتهاك والضياع؛ فسعى للحصول على أكبر ميزانية للثقافة في تاريخ فرنسا وحقق مشروعه المهم في الحفاظ على التراث الثقافي الفرنسي من أدب وفنون وتراث وموسيقى وأفلام ومتاحف، وعمل على “رقمنة” هذا التراث الغني، بينما لا تمنح الثقافة في العراق إلا النزر اليسير من ميزانية الدولة ليحظى السلاح وعسكرة البلاد بأعلى نسبة من موارد البلاد.

نيسان ـ نشر في 2017-06-04 الساعة 13:26


رأي: لطفية الدليمي

الكلمات الأكثر بحثاً