اتصل بنا
 

وردة حمراء عند الباب

نيسان ـ نشر في 2017-02-19

نيسان ـ

في بدايات الألفية الثانية، كنا نعيش، أمي وأنا وابنتي، في بيت واحد، أمي في النصف الثاني من خمسينيتها، وأنا في أواخر ثلاثينيتي، وابنتي في أوج مراهقتها. كنا، نحن الثلاثة، في أعمارنا المختلفة، مهيئات للحب ومستعدات له جسديا وعاطفيا. أمي، المحافظة، كانت تحتد علينا وتغضب، حين نتحدث في موضوع الحب، أو حين نقول لها مازحات: علينا البحث عن عائلة من الرجال الوحيدين، جد وابن وحفيد، كي لا نبقى وحيداتٍ هكذا. لم نجد هذه العائلة طبعا، لم يتعدّ الأمر حالة المزاح مع أمي، السيدة الفاتنة التي عاشت عمرها كله وقلبها مغلق على شخص واحد في حياته ومماته، كانت يوميات حياتنا تمضي عاديةً، بروتين يومي يسبّبه الاختلاف في رؤية الحياة بين ثلاثة أجيال من النساء.
شيء ما حدث وقتها كسر الروتين اليومي لحياتنا، حين وجدنا صباح يومٍ ما وردة حمراء موضوعةً على باب البيت، لم نهتم كثيرا للأمر، لولا أنه تكرّر في اليوم الثاني، واستمر مدة تتجاوز الشهر تقريباً، وردة حمراء صباحية على باب البيت، لا نعرف من يتركها، والأهم أننا لا نعرف لمن تترك، كان للوردة الحمراء جانب كبير من مزاحنا اليومي وأحاديثنا مع الأصدقاء، لكنني الآن، وأنا أحكي عن هذه الحادثة البعيدة، أخمّن أن ثلاثتنا كنا نخترع سيناريوهاتنا الخاصة حول الوردة وصاحبها، إذ ثمّة في الروح تلك المساحة الفارغة التي لا يملؤها سوى الآخر، مهما حاولنا التعتيم عليها، وثمّة غواية الحب التي نقتفي أثرها، مهما كانت أعمارنا وأحوالنا.
الحادثة نفسها حدثت معي، قبل أيام، صباح عيد الحب. وجدت وردة حمراء من مجهولٍ ملقيةً أمام باب البيت. أتذكر تلك الورود الحمراء وخيالاتي حولها، وأنا أرى كيف سهلت لنا وسائل التواصل الاجتماعي فضح مساحة الفراغ الباحثة عن الحب في أرواحنا. كنت أحكي لأصدقاء من مدة أنني ذات يوم تعرّفت إلى رجل عبر الماسينجر، وأحببته قبل أن ألتقيه، وكنت أقضي ساعاتٍ أتحادث معه. كان هذا قبل 'فيسبوك' و'سكايب' و'فايبر' وغيره. قلت لهم: كان استثنائيا أنني تورطت بشيء كهذا، أما اليوم فيبدو أن العلاقات الافتراضية العابرة للقارات أصبحت عادية جدا، ومنتشرة بشكل واسع، ولا تقتصر على الكهول، أمثالي، ممن قلّت فرصهم في إيجاد شريكٍ عاطفيٍّ مناسب في الواقع، بل هي حالة تعمّمت حتى بين الشباب، تشبه العلاقات الافتراضية حكاية الوردة في وجهتين مختلفتين. الأولى أنك في علاقة كهذه تخترع سيناريو، لكنك تتشاركه مع آخر، تراه بوصفه صورةً متحركة، معتمدا على حسية الصوت أو الكتابة في نقل أحاسيسك، وعلى الخيال مستعيضا به عن حسّية اللمس. في حكاية الوردة كان الخيال هو الأداة الوحيدة في تخيل الآخر. أما الوجهة الثانية، فهي في تأويل ما يكتب أحدهم/ن في الحب أو الغزل أو الرغبة على 'فيسبوك' مثلا، واعتباره موجهاً لنا بشكل شخصي.
نحمّل كتابةً كهذه كل فراغنا واضطراباتنا العاطفية، ونخترع سيناريو عن علاقة حبٍّ نشتهي الوقوع فيها، ونعيش خيالها الكامل من دون أن يعرف أحد، حتى صاحب المنشور نفسه. في هذه الحالات كلها، يتم التعويل الأكبر على الخيال، في خلق عالم الحب الذي نشتهيه. لا مجال هنا للنكد الذي تصنعه الحياة اليومية المشتركة، ولا مجال لفقدان الشغف، فعلاقة الحب هذه يحكمها النقصان الذي يجعلها دائمة التوهج، النقصان الذي لا يختفي إلا باكتمال الحواس كلها. مع علاقةٍ كهذه، تتنحّى حاسة اللمس والشم والتذوق جانبا، أنت لا تعرف رائحة الآخر، ولا ملمس جسده، ولا طعم الملح في جلده. أنت تعتمد فقط على خيالك في اختراع الرائحة والملمس والطعم الذي تحبه، وتسقطه على الآخر الذي قد يحمل مواصفاتٍ مختلفة تماما عن تلك التي رتبها خيالك. ولكن، هل يستطيع الخيال التعويض؟ هل يمكن للافتراض أن يكون بديلا عن الحقيقي والملموس والمحسوس؟ هل تقدر وردةٌ حمراءُ، ملقيةٌ على باب بيت نساءٍ وحيداتٍ، أن تسد فراغات الروح بالأسئلة حولها؟
شخصيا، على الرغم من إيماني بطاقة الخيال المذهلة، أفضل حسّية الحواس، وليكن الخيال مساعداً في استدامة الشغف.

نيسان ـ نشر في 2017-02-19

الكلمات الأكثر بحثاً