اتصل بنا
 

مليونيات أميركية

نيسان ـ نشر في 2017-01-24

نيسان ـ

يبدو أن الربيع العربي المغدور لم يمت. فها هي أشكاله وأساليبه تنبعث في غير عاصمة غربية، وخصوصا في أميركا. التحشيد تقريباً نفسه، الوسائل تقريبا نفسها: دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي (تحديداً فيسبوك)، نشطاء يحرّكون آلافاً، آلافٌ يتدفقون من الشوارع والجادّات، ويصبّون هديرهم في الساحات الكبيرة. كان هذا امتياز الحالة المصرية الملهمة (بتعبير الرئيس الأميركي المنصرف باراك أوباما). وعلى شاكلة الحالة المليونية المصرية، رأينا شوارع أميركا ومدنها تغصّ بأنبل مكوّن مجتمعي: النساء. هذا هو الاستنثاء. لأن الحالة التي تتحشد فيها نساء أميركا، وطيف واسع من نساء الغرب الأوروبي، مختلفة. فهنا انتفاضٌ على ما يمثله جلوس دونالد ترامب في البيت الأبيض من خطرٍ على الحريات عموماً، ولكن، أيضاً، على ازدرائه المرأة، وإلحاقها بمن طاولهم خطابه، الانتخابي والرئاسي، من تهميش، أو تهديد، أو ازدراء، مثل المهاجرين والمسلمين، والأقليات.
لم تنطفئ هذه الشعلة، ولن تفعل. نحن لسنا أول من أوقدها، ولن تكون تظاهرات النساء المليونية في معظم المدن الأميركية الكبرى، ومدن الغرب الحية، آخرها. إنها شعلةٌ بدأت من بروموثيوس الذي هام بالبشر الفانين، وقرّر أن يسرق لهم المعارف والفنون التي كانت حكراً على الآلهة، وختم صنيعه الباهر بسرقة النار. عوقب سليل آلهة الأولمب، محب البشر وواضع التمرّد في أصلابهم، بخرقه 'الحظر'، أو المنع السلطوي، بصنوفٍ شتى من العقاب ولكنه لم يرعو.. شعلة المعرفة التي 'سرقها' بروموثيوس، وضعت البشر الفانين وجهاً لوجه أمام أكبر سلطة: مجمع الأولمب، وعلى رأسه زيوس. هذا هو قدر الإنسان. أن يقف في وجه زيوس. أن يظلّ ينقل الشعلة المقدسة، المسروقة، من يد إلى يد. وعلى عكس أسطورة نار المعرفة، والتمرّد، المسروقة، وسارقها بروموثيوس، ليست المرأة للغواية. ليست باندورا التي فتحت صندوق الشرور على العالم. هذا ربما ما يفكر فيه ترامب وأمثاله. فها هي المرأة التي 'هزمها' في الانتخابات، بفضل غرابة النظام الانتخابي الأميركي (الكلية الانتخابية) تهرق على يومه الرئاسي الأول قطراناً، تلطّخه بما يستحقه من الغضب والرفض.
دعونا نعود، قليلاً، إلى الوراء: لم يكن ينظر ترامب إلى الجهة التي تقف فيها هيلاري كلينتون، في أكثر من مواجهةٍ جمعتهما معاً. كانت لغته الجسدية تعبر عما لم يكن يقوله أكثر، ربما، مما كان يقوله، وهو بحد ذاته فظيع. هذا لا يعني أن هيلاري كلينتون أكثر خيراً للعالم منه، ولا أقل منه 'ذكوريةً' سياسية. كلا. كانت مشكلة ترامب التي التقطتها النساء الأميركيات أنه يزدري هيلاري لأنها امرأة. من هي هذه التي سيكون لها الحق في قيادة أكبر جيش في العالم، وتتنقل معها، حيثما حلت، الحقيبة النووية؟
ربما كان هذا كثيراً، أيضاً، على جمهور ترامب الذي يشكّل قلب المجتمع الأميركي المتديّن، المحافظ، الذكوري، الأبيض، فالمرأة بالنسبة لهؤلاء سوداء، حتى لو كانت بيضاء جداً مثل هيلاري، فالسواد (أو السمرة) هنا ليست لون بشرة، إنها مرتبةٌ 'إثنية' واجتماعية. لذلك لم تتضعضع حظوظ ترامب الانتخابية مع تكشّف فضائحه تباعاً. لا التحرّش أنقص هذه الحظوظ، ولا استهداف منتمين إلى دين، ولا حتى عدم دفعه ضرائب عن ملياراته، هزَّ سباقه الرئاسي. لقد رأى جمهوره في هذه الفضائح نوعاً من 'الفتونة'. قبضاي يتحدّى المؤسسة، أياً كان شكلها ويهزمها في عقر دارها.
من محاسن المصادفات أن يترافق ربيع النساء الأميركي (بل والغربي) مع اقتراب ذكرى الربيع المصري الذي أصبح مصدر إلهام عالمي.. حتى لو لم ينجح، مؤقتاً، في بلاده. فنيران بروموثيوس المصري لم تنطفئ. إنها تحت الرماد. ولن تسرقها 'الآلهة'، في حالة معاكسة، من اليد التي ستضيء بها ليل القهر والظلم واحتقار الحياة الإنسانية. لشعلة الثورة أهلها، وهم ليسوا من طراز الذين رأيناهم يسرقونها تحت مسمياتٍ مزيّفة، مخادعة، على الرغم من أنها برّاقة.

نيسان ـ نشر في 2017-01-24

الكلمات الأكثر بحثاً