اتصل بنا
 

لبنان... أزمة عقل عميقة

نيسان ـ نشر في 2017-01-08

نيسان ـ

قبل أكثر من 80 عاماً، انشغل جزء من اللبنانيين بترجمة مصطلح طبي أجنبي متعلق بخلايا الدم إلى اللغة العربية، وانحصر الأمر بفريقين. واحد يدعو إلى تسمية تلك الخلايات بـ 'الكريات' وثان بـ 'الكرى'. احتدم الجدال اللغوي، على حساب الإنجاز العلمي بحد ذاته، وأمضى اللغويون فترة طويلة، وهم يتشاحنون حول الأمر. مع العلم أن الطب تقدّم كثيراً في ذلك الحين، بينما تراوح الفتاوى اللغوية مكانها. إنها أزمة العقل المزمنة.
مطلع الأسبوع الحالي، مع فوارق في الموضوع وشخصياته وظروفه، غرق لبنانيون بجدال عقيم حول وصف من سقط في اعتداء ملهى رينا في إسطنبول ليلة رأس السنة، بـ'الضحايا' أو 'الشهداء'. كان يمكن أن يكون الأمر عادياً، لأن المصاب كبير وطاول أشخاصاً من مختلف البلدان، وأن يتم التركيز فقط على ما حصل، سواء بصورة عاجلة، كاستجابة الدولة عبر الاهتمام برعاياها، أو عن طريق تدارك الأمر مستقبلا، كإنشاء مركز لإدارة الكوارث، أو تطوير أنظمة الاستجابة.
لكن لا، يريد بعض اللبنانيين انتصاراً ما. انتصاراً وهمياً، يرفعونه على حساب أزماتهم المعيشية والأخلاقية، كعادة كل بائس باحث عن مجدٍ واهم، لا عن تغيير ينبع من داخله. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل امتد إلى من يعتبرون أنفسهم 'نخبة المجتمع'، استنادا إلى خبراتهم وشهاداتهم. أحزروا ماذا؟ لا قيمة لخبراء أو شهادات في لبنان، ما دامت الغرائزية المناطقية والطوائفية هي المنتصرة في معظم الأحيان.
كان الحديث عن الاعتداء فقط، فجأة تحول في غضون ساعات إلى صراع طائفي على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المرئية، وبشكل مسيحي - مسلم، في تكرار موبوء لأزمة يشكل 'التقوقع' العقلي، لا المناطقي، محورها الأساس. كلمتان فقط هزتا بلد، أو 'شبّه لنا' ببلد: ضحايا وشهداء.
'نخبة المجتمع' لم يتأهبوا لوضع حد للنقاشات المبتذلة، بل اندمجوا في الصراع الافتراضي. يريدون تسجيل موقفٍ على إحدى الضفتين، فقط للبقاء على قيد الحياة 'افتراضيا'.
لا ينحصر السؤال الأهم فقط في مدى 'تورط' بعض اللبنانيين بنقاشاتٍ مبتذلة، بل في سهولة الانزلاق إلى مثل هذه النقاشات، وإسقاط العناصر الطائفية والمذهبية والمناطقية عليها، بما يشبه 'النفاق العظيم' الذي ندور في رحاه منذ استقلال لبنان 1943.
لم يجلس أحدهم وهلة ويسأل نفسه 'لماذا أفعل ذلك وحولي النفايات منتشرة والمستشفيات لا تستقبل المرضى، والبطالة إلى ازدياد، وخدمات الكهرباء والماء والإنترنت باتت أشبه بكماليات غير بديهية؟'.
لم يكلف أحدهم عناء التفكير قليلاً: 'حسناً ماذا ينفع وصف من سقط في اسطنبول بالضحايا أو الشهداء؟ هل يعيدهم إلى الحياة، أو نشبع غرورنا العبثي الذي يوحي لنا بانتصار وهمي، على الآخر، أو على ما لا نستطيع القيام به؟'.
ألا يمكن أن نحيي ذكراهم عبر احترام موتهم، من دون الغرق في أحاديث وتفسيراتٍ تنم عن جهل كثير، لا عن فهم بديهي؟ ألا يعلم كثيرون أن الجوهر أهم من القشور؟
ألم يفكر أحدهم بأن 'المرحلة المقبلة قد تكون أكثر إيلاما مما سبق، في حال تكثف عمل الذئاب المنفردة، على وقع التطورات الميدانية في الموصل والأنبار وبغداد في العراق، والباب في سورية، فضلاً عن التطورات السياسية المتعلقة بالملف السوري؟'.
لو أن معظم من انغمس في حربٍ افتراضية قد راجع مواقفه السابقة، واجتهد لنزع الحدود الفاصلة بين العقل وعكسه، لأدرك أنه أهدر وقتا طويلاً من عمره على محاربة طواحين هواء وهمية. عادة، يظهر الفرد أو المجتمع على حقيقته، في أثناء المحطات المفصلية. وحتى الآن، لا زلنا في لبنان نواجه الإشكاليات نفسها بطرق التفكير النمطية، تلك التي رفعت الحواجز بين 'الشعوب اللبنانية'. نحتاج إلى الكثير بعد للخروج من 'الكريات والكرى' و'الضحايا والشهداء'، لكن العقل يستحق المحاولة، ولو مرة واحدة في حياتنا.
مشاركة

نيسان ـ نشر في 2017-01-08

الكلمات الأكثر بحثاً