اتصل بنا
 

رخصة منتهية الصلاحية

نيسان ـ نشر في 2017-01-04

نيسان ـ

ما كان ينبغي أن يتورّط بتجديد رخصة القيادة ذلك الكهل البائس، فقد اكتشف، بعد أن التهمه موظف التجديد بعينيه الثاقبتين، ومسح بهما هيكله من مطلع الشيب حتى أخمص تجاعيد القدمين، أن ثمّة معضلة في 'ترخيصه'، غير أنه، وعقب المسح البرّي والجوي الدقيق لجسده، قرّر أن يجدّد له الرخصة، شفقةً ربما، لكن بنصف المدة الزمنية المعتادة للترخيص، أي أنه قلّص 'صلاحيته' للقيادة من عشر سنوات إلى خمس، على خلاف ما كان عليه الأمر في ما مضى، حين كان يحظى الكهل بترخيص طويل الأمد، من دون تردّد.
بتثاقلٍ شديد، خرج الكهل يجرّ قدميه من دائرة الترخيص، متفقدًا 'هيكله'، خشية أن يكون قد سقط منه عضوٌ من دون أن يتنبه له، فقد شعر، وللمرة الأولى في حياته، أنه لم يعد يمتلك سيطرةً على جسده كالسابق، حتى إنه ارتبك طويلاً، حين ركب سيارته استعدادًا للقيادة، وشعر أنه لن يقوى عليها، فخرج من السيارة ونظر إليها بحزن من يشيّع عزيزًا إلى مثواه الأخير، واختار أن يعود إلى بيته راجلًا.
في الطريق الذي أصبح يرى نهايته عن بعد أول مرة، شعر أن 'الرخصة' لم تعد ترتبط بقيادة السيارة، فقط، بل غدت رخصةً لحياته ذاتها التي لم تعد قابلةً للتجديد، ولا يدري من أين واتاه إحساسٌ بأنه غدا ملزمًا أيضاً، بمراجعة حزمة 'ممتلكاته' كلها، ليطلب منها 'التجديد'.
لم يكن واثقًا من أين يبدأ، هل يبدأ من حبيبةٍ قديمة ظل طيفها 'يتجدّد' مع كل مرحلة من حياته، وهل عليه أن يراجعها الآن، لتمدّد له رخصة الحب سنة أخرى، أم أنها ستعاين هيكله، كما فعل ذلك الموظف المقيت، وتلغي 'الرخصة'؟ أو ربما كان الأجدى أن يراجع أقرب دائرةٍ حكومية، ليتأكّد من صلاحيته مواطناً، وهل سيجدّدون له رخصة المواطنة سنةً أخرى، أم سيفقد 'حقه' بالرخصة الوطنية، خصوصًا أنه متقاعد، ولم يعد محط نظر مديرية الضرائب، وتذكّر كيف تعامل معه موظف الضريبة بامتعاض، في آخر مراجعةٍ له قبل أعوام، لتبرئة ذمته قبل الحصول على راتبٍ تقاعدي، واستبدّ به شعورٌ بأنه أصبح متسوّلًا أكثر من كونه صاحب حقٍّ، أفنى عمره في خدمة الوطن.
استند إلى أقرب حائط، وهو يلهث، وشعر أن شرط الترخيص صار ضروريّا لكل شيء، وبدا له أنه فائض عن الحاجة، خصوصًا حين أخرج رخصة القيادة من جيبه، وراح يتفحصها بعد التجديد، فخالجه إحساسٌ بأنه قرأ عليها 'رخصة قطيع'، لا رخصة قيادة.
عمومًا، كان يمكن أن يمر هذا الالتباس النظري عابرًا، لولا أن الكهل سمع من بعيد دويّ موكب السيد الرئيس يخترق شوارع المدينة، ولمحه من بعيد بشعره الأشيب وهيكله المتهالك، يقود السيارة السوداء الطويلة، كعادته دومًا، غير أنها المرة الأولى، أيضًا، التي يرى فيها الزعيم بصورةٍ أخرى تتلاشى منها المهابة والتقديس، وشعر أنه ينظر، في واقع الأمر، إلى 'هيكل عظمي' ممدّد على مقعد القيادة بلا حراك، على الرغم من كل الحركات الكاريكاتورية، والابتسامات المصطنعة، التي اعتاد السيد الرئيس على ابتذالها كلما كان في موكبه.
شعورٌ غامض دفع الكهل إلى التساؤل: تُرى هل يجدّد الرئيس 'رخصة القيادة'، كما نفعل نحن، ومن هو 'الموظف المتعوس' الذي ينبغي له أن يتورّط بمعاينة 'هيكل' الزعيم العظميّ، ليحكم بصلاحيته لمزاولة القيادة، وهل في وسعه أن يجرؤ على الحكم بعكس ذلك؟
مرّت كل هذه التساؤلات مختلطةً في ذهن الكهل الذي كان ما يزال مستندًا إلى الجدار، غير أنه شعر بغتةً بجسده، يستعيد عافية الشباب، وكأنه جرع شرابًا سحريًّا أعاد له حيويته الأولى، ووجد نفسه، من دون أن يدري، يرمح خلف موكب الزعيم، صارخًا: 'أوقفوه.. انتهت رخصة قيادة الرئيس'.

نيسان ـ نشر في 2017-01-04

الكلمات الأكثر بحثاً