اتصل بنا
 

"أنا دفعت رشوة"

كاتب اردني مغترب

نيسان ـ نشر في 2017-12-11 الساعة 15:10

نيسان ـ

العنوان أعلاه هو الترجمة العربية لاسم الموقع الإلكتروني 'IPaidABride.com'، الذي أطلق في أغسطس/ آب 2010، وأسسه مركز جاناغراها للمواطنة والديمقراطية، وهو منظمة غير ربحية في الهند، ويعد أكبر منصةٍ لمكافحة الفساد على الإنترنت في العالم. يستخدمه أفرادٌ وهيئاتٌ ومنظمات، لتوثيق بياناتٍ عن ممارسات الفساد ووقائع محدّدة فيه. ومنذ إطلاقه، رصد أكثر من 36000 رشوة قيمتها نحو 430 مليون دولار، من أكثر من ألف مدينة وبلدة، وتمت للموقع نحو 15 مليون زيارة، وتم تعميمه في آسيا وأفريقيا وأوروبا والأميركتين، إلى جانب 30 بلدا، وهو يوفر في الهند مساحةً للمواطنين للإبلاغ عن قصصهم وتجاربهم فيما يتعلق بالفساد، حيث لا يريد غالبيتهم القنوات الرسمية أو المكاتب الحكومية.
لم يكن صاحب هذه الكلمات ليفطن أصلا إلى وجود هذه المبادرة في فضاء الإنترنت، وإلى هذا الاعتناء الكبير من القائمين على هذا الموقع الإلكتروني بقضية الرشوة، لولا أن جهدهم في صنيعهم هذا استحقّ واحدةً من جوائز الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لمكافحة الفساد، في فئة جائزة الابتكار، في دورتها الثانية. وهم للحق يستحقون تقديرا استثنائيا، إذ يحاربون واحدةً من الممارسات الذائعة في كل مجتمعات العالم، وإنْ بنسبٍ متباينةٍ طبعا، ما قد يعني أن شيئا من الدونكيشوتية ربما يزاوله هؤلاء المحاربون المغامرون، فالرشوة، وهي بحسب تعريفاتٍ وتصنيفاتٍ غير قليلة، لونٌ من الفساد الأصغر، وإن كانت لا تبدو هذه المنزلة الدنيا غير دقيقةٍ تماما، عندما تصل الرشوة إلى ملايين الدولارات لتزبيط المسؤول الرفيع الفلاني صفقة لشراء طائرات أو أسلحة أو غيرهما، وإنْ يعمد أهل الخبرة والاختصاص في علوم الفساد وأشكاله وتنويعاته إلى وضع هذا النوع من الرشاوي في مرتبةٍ عليا بين ألوان أخرى من الفساد.
أرجّح أن الموقع الإلكتروني المتحدّث عنه هنا، والحائز أخيرا على الجائزة العالمية المدعومة بشراكةٍ من الأمم المتحدة، غير معروفٍ بالدرجة التي يستحقها في بلادنا العربية، ليس فقط لأنه هندي المنبت والمنشأ، وإنما ربما لأن القناعة المتوطّنة في مدارك وأخيلةٍ عديدة بيننا، نحن العرب، أن الرشوة شأنٌ لا يستحق أن يصدّع واحدنا رأسه في أمرها، ذلك أنها من عاديّ الممارسات الطبيعية في المجتمعات، ولا يشعر الراشي والمرتشي في الدوائر الحكومية (مثلا)، المعنيّة بالمعاملات مع الجمهور خصوصا، أن أيا منهما اقترف أمرا مستنكرا أو معيبا، ولأنها كذلك فإنها 'إكرامية' للموظف الذي يقدّم خدمة للمواطن، واعتبارها كذلك هو مما يخفّف من الحمولة المعيبة التي تتضمنها تسمية الرشوة، ولا تُحدث شعورا بأي ذنب. بل إن رئيس حزب في الجزائر 'أفتى'، مرة، أمام جمهور عام بأن الرشوة حلال، لأنها تنفع الإنسان. وكان صادقا وطريفا النائب في البرلمان العراقي، مشعان الجبوري، لما قال إن كل السياسيين والنواب والمسؤولين في بلاده فاسدون ومرتشون، وإنه شخصيا منهم، وقبض رشوةً للمساهمة في إغلاق ملف، وإن الفاسدين يسلمون أعضاء لجنة النزاهة في البرلمان العراقي رشاوى لإغلاق ملفات وقضايا، ورئيس هذه اللجنة بحاجةٍ إلى لجنة نزاهة.
والرشوة، كما هو شديد الوضوح، لا تختص بها مجتمعات البلاد الفقيرة ومتوسطة الحال ومؤسساتها فقط، فهي حاضرة في الدول الغنية أيضا، ومنها دول الخليج. وهذه التحقيقات في قضية سيول جدة قد كشفت عن تسلم مسؤولين رفيعين رشاوى بمئات ألوف الريالات من شركات مقاولات وبناء. وقالها المعلق والصحافي جمال خاشقجي، قبل أيام، إن أمراء من أبناء ملوك السعودية يقبضون رشاوى من أجل تزبيط هذا المشروع أو ذاك لفلان أو علان. وفي مصر، يذكر تقرير للبنك الدولي ما لا يحتاج إلى شواهد،ومنه أن الغالبية العظمى من المصريين يرون دفع الرشوة (أو الإكرامية؟) يعني حصولهم على الخدمة العامة، أو يحل مشكلة. وفي الأردن، يقول رئيس هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، محمد العلاف، إن الرشوة في بلاده في توسع، وهي موجودة في عشرين قطاعا حكوميا. وفي استطلاع أجرته جمعية 'سكر الدكانة' في لبنان، قال 50% من اللبنانيين المستجوبين إنه لا مانع لديهم من القيام بعملية فساد، و87% يرون القطاع العام فاسدا.
هي تحية مقدّرةٌ لمجموعة موقع 'أنا دفعت رشوة'، لأن فوزهم بجائزة الشيخ تميم لمكافحة الفساد، تكريما لابتكارهم طريقتهم هذه في جهدهم الأميز، يسّر مناسبةً لتذكّر كلّ واحدٍ منا كم مرة دفع رشوة لموظف هنا أو هناك، من أجل تيسير معاملة مثلا؟

نيسان ـ نشر في 2017-12-11 الساعة 15:10


رأي: معن البياري كاتب اردني مغترب

الكلمات الأكثر بحثاً