اتصل بنا
 

خريف لبنان

نيسان ـ نشر في 2017-10-24 الساعة 14:17

نيسان ـ

وإذ تسقط تلك الوريقة الصفراء على رأسك، تتذكّر أن في بيروت بعدُ شجراً ناجياً، كما أنت، من زلازل وعواصف وأعاصير. وإذ ترى، في جذوعه المائلة، أثر ذاكرته المثخنة، تسارع إلى الصعود، عالياً، عالياً، إلى حيث ينسى الشجرُ نصفه السفلي، مكتفياً بما يتفلّت من قانون الجاذبية، ليعيد إليه بعضاً من طبيعته الخضراء.
وإذ تباشر الحرارة انخفاضها التدريجيّ - وإن شاكستْ أياماً لسوء مزاجٍ أو حبّاً بالمناكفة - مرسلةً إليك برودة طارئة ومشتهاة، تدرك أن المدينة العاتية دخلت خريفها الأسبق، وأنها، برغم كل ما نكسته من وعود، أبقت على عهدها بمنحك فصولها الأربعة، بالتمام والكمال، وإنّ أحبّها إلى قلبك قد حلّ أخيراً. أجل هو خريف بيروت، فصل لملمة الأطراف، وخلوّ الأمكنة المأهولة، وشغور الشطآن، وعودة البحر إلى وحشته الزرقاء.
وإذ تغسل المطرة الأولى روحَك من غبش الرؤية، ماسحةً زجاجَ نظّارات كآبتك، وعابقة بشذى تربةٍ وشوشها الماء، تودّع وقاحة الصيف غير آسفٍ على ضوضائه المفتعلة وغبطته المدّعاة، مشرّعاً ذراعيك لسماء متموّجة، متدرّجة، موشّحة بالبياض، وبتشكيلات أجنحة حمامٍ يلوب على نفسه، في عَوْدٍ أبدي لا يُنتقص ولا يكلّ. هكذا، أياماً، حتى تبدأ السماء بالانخفاض، قليلاً، رويداً، فتشرّع لها ذراعيك، توّاقاً إلى اكتمال لحظة الوصل، عندما ستنزل إليك، وتكاد تتمدّد عليها، فيما أنت شاردٌ في كنبتك، أمام الشبّاك.
وإذ يبلغ خريفُ لبنان جبالَه والمرتفعات، ينفجر كبركانٍ يرمي بألوانه الترابية والبرتقالية والصفراء، كيفما اتفق، فوق المدى، ولتصمدِ القلوبُ الضعيفة الحانية ساعتئذ، وليسقطِ العاشقُ المهجور، ولتتحمل رطوبةُ التراب كل تلك الغواية، كل ذلك المجون. يصير النور مسالماً، سكّرياً، وقد أنضجته حلاوة الصيف، وينزل الضباب ملتاعاً، مشتاقاً، حاضناً ومقبّلاً أسفلت الطرقات. تكحّ المدافئ دخانها المتعثر، ويبرد القرميدُ الأحمر، وثمّة ذهولٌ بنفسجي الهوى يستولي على الأفق، وعلى سفوح الجبال. زهري فبنفسجي فأزرق فكحليّ، إلى أن تظهر قبة السماء، قبّةً فعلاً، ومرصّعة حقيقةً بالماس.
على عكس جبالنا، يدخل خريف لبنان مُدنَـنا على خفر وحياء، متردّداً، مأسوراً، عاجزاً عن الكلام، فالحجر كثير، والأسفلت كثير، والبشر على عجلة، والهواء مختنقٌ بسخام السيارات. والمدينة المنقسمة على ذاتها تصمّ الآذان نعياً وشكوىً وتأففاً وشجاراً ونفاقاً وادّعاء وغلاء أسعار. هنا، هو خريف الفقر والجيب المثقوب، والحسابات الناقصة التي تُكرَّر وتعاد، والأقساط المرتفعة، والبطالة التي بلغت نسبةً مخيفة، وأحلام الهجرة، وهجرة الأحلام... خريف البلاد الخاوية التي تغصّ بأهلها وعمّالها الأجانب ونازحيها، بقدر ما هو خريف الكراهية، والتحريض الطائفي والمذهبي، والعقول النتنة، والأيدي الآثمة...
ومع ذلك، يزورك فجأة مشهدُ المباني الممسوسة، وقد استسلمت لهدأة المساء، حيث الأطيافُ تحنو، والأيدي تهدهد وتطيّب، والأقدام الصغيرة تلهو وتغفو، وقمرٌ واطئ حانٍ يبتسم للحالمين، ونسماتٌ تداعب القلب بمخملها، ورائحةُ ياسمينٍ تصل هاربةً من أصص تزيّن بعض الشرفات، وشموعٌ تضاء وآلهةٌ تستدعى من بعيد.
لا يدرك خريفُنا عمق انتمائنا إليه. لا يعرف كم أننا هو، أكثر مما نحن إخوته من الفصول المتبقية الأخرى، الشتاء والصيف والربيع. إنه مزاجنا الحقيقي، عزوتنا حين يغادرنا الآخرون زوّاراً ومدعوّين وأهلاً وأصدقاء، ومرآتنا عندما نقف أمام موائدنا المستهلكة وأكوابنا الفارغة وأعمارنا الماضية التي لا تتوقف عن المضيّ. وإذ نخلع أثواب أدائنا الجميل، ونرفع عن وجوهنا وفرة التعابير والمساحيق، يفتح لنا الخريفُ ليخطو بنا، وئيداً، أكيداً، نحو أسرّة عُرينا القديم.

نيسان ـ نشر في 2017-10-24 الساعة 14:17


رأي: نجوى بركات

الكلمات الأكثر بحثاً