اتصل بنا
 

دعونا نعالج انفسنا

نيسان ـ نشر في 2017-04-25 الساعة 15:05

نيسان ـ

حين ننظر الى البناء والعمارة والمؤشرات التكنولوجية ضمن دوائرها التوظيفة الظاهرية للقيَمّ العلمية سواء باسم الجامعات والمعاهد والمدارس او من خلال التباهي بالمتحولات العمرانية وتخصيص واجهات اعلامية براقة لها، ومن ثم اعتبار كل هذا هو اساس التمدن والتحضر ، وقتها نعيش آفة ذاتية داخلية يمكنها ان تنهي وجودنا بهزة او زلزال او موجة عاتية، فنصبح حينها اشبه بالبدو الذين اينما ارتحلوا تبقى سماتهم متجذرة ومتأصلة في سلوكياتهم وافعالهم على الرغم من تغير ردائهم ووسائل نقلهم وحتى اماكن سكنهم.. مما يؤكد ان المعضلة او العلة ليست في الاماكن انما في النمط السلوكي والوعي بالذات بعيداً عن كل الادعاءات الاخرى التي تنمط السلوكية وفق تداعيات الاصالة والمحافظة عليها، وتدوير الموروث وتفعيله ضمن هياكل عصرية مواكبة للحدث الاجمالي للوجود البشري على جميع الاصعدة.
كذا هو الحال بمن ترك الجبل ونزل الى السهل، فجلب معه طباع الحياة هناك حيث قسوة الطقس وصعوبة الارض والتضاريس والعيش زراعة او رعياً، فلم يستفد من السهل الا بالمتغيرات الظاهرية التي تتوافق مع الموجود الحضري 'الاجتماعي' بعيداً عن الادراكات التفاعلية لغرضية التغيير، ولاهمية التغيير، ولوجوب التغيير، ولضرورة التعايش الداخلي الذاتي والواعي لتلك الموجبات والضروريات المتغيرة التي تطرأ على حياته ويقلبها رأساً على عقب.
والفرق بين البدو من الصحراء' العرب' والاخرين يذكره ابن خلدون فيجد الصحراوي ' أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها.... ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى تجلب إليه من قطر آخر...'، بين الاخرين الذين يمتهنون الزراعة يقول عنهم ' هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب، بالقيام على إثارة الأرض لها وازدراعها، وعلاج نباتها،...ثم حصاد سنبله واستخراج حبه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك، وتحصيل أسبابه، ودواعيه. وهي أقدم الصنائع...'، فمع ان البداوة كامنة في الاثنين الا ان الثانية على الاقل منتجة، ويمكن مزجها ضمن هياكل التحرك الواعي وفق مسارات التدرج' ان تقبلت ذلك'، وهي تعد اعرق واقدم ليس فقط لكونها تنتج القوت، انما لكونها تدرجت وفق مسارات الحياة منذ البدء الى وقتنا الحالي..وحتى لايؤخذ الامر ضمن اعتبارات تعصبية هنا لسنا بصدد التعرض لمكانة احد، ولا التقليل من منزلتهم.. انما فقط هذه محاولة لمعرفة موجبات التدرج والاندماج مع المدنية المتحضرة.
ومع كل ما ذكرناه عن ماهيات البداوة هناك في الامرين ما يجعلنا نحاول معاينة المعيقات المدنية التي تعبث بالوعي البدوي والجبلي معاً، لنجدهما ضمن سياقات لاتتخذ نمطاً تدريجياً في التحول في وقتنا الحالي، باعبتار ان التدرج لربما يساهم في اسقاط النعرات والقسوة ويمهد للوعي والفهم حتى وان كان بطيئاً غير مستقراً، لكنه يحدث الفارق الضئيل في التحرك والتواجد والتساهم معاً، ولعل المتمعن في ايقاعات التفاعل الوجودي لهذه الفيئات البشرية داخل المجتمعات الحضرية سيلاحظ مدى التفاوت على جميع الاصعدة بين الوعي الممنطق للموجودات البرانية بكل مستوياتها وتوظيفاتهم لها، وبين اللاواعي الوجوبي القسري الذي يقلد السابق ويوظف الموجودات ضمن ممرات لاتنتج، ولاتبدع، بل تكرر وتتراوح ضمن دوائر قسرية غير فعالة.. مما يخلق نوعاً من الهمجية والقساوة في التعامل مع الاحداث بصورة عامة، ومع المواقف والاشخاص بصورة خاصة، وبالتالي تخلق شرخاً وتوسع الهوة بين الواقعي المنطقي وبين اللاواعي المقلد.. فتبرز المعيات التي تبرهن على ان الوعي بالذات ضمن مساراته التقليدية والحديثة يشكل نقطة اساسية في تحريك المنطق الوجودي للانسان ضمن دوائره وضمن مداراته الفهمية والادراكية معاً.. باعتبار ان الوعي بالذات يعتبر بعداً من الابعاد المهة للذكاء الانفعالي الذي يسهم في هندسة الذات وتفعيل مسارات حيويتها في التوافق مع الذاتوالآخرين واستثمار ذلك في تفعيل مسارات الطاقة اللا محدودة في مكنوناتها، كما يرى ذلك'جولمان'.
ولكن حين تبقى تلك المدارات الانفعالية للذكاء ضمن هياكل وقوالب التأصيل الذهني وفق تداعيات الموروث المحافظ ومنع المس بمكنوناته باعتبارها مقدسة غير قابلة للتداول وقتها تتحول تلك الانفعالات الى انعكسات مضادة للتطور وتبقى الانفعالات ' الافعال ' ضمن دوائرها السبقية، فتصير الهوية غير مبرمجة على تقبل الاخر، انما كل شيء من الاخر لايتوافق مع الموروثات السبقية تصبح محرمة، وحينها تكون ردة الفعل عنيفة غير واعية وبعيدة عن كل الممكنات المتحضرة، وتصبح ادوات القمع والكبت هي الاسلحة التي يستخدمها اللاواعي وغير المتأقلم مع الموجودات، وهذا ما يجعلنا نقول بان الوعي بالذات هو في الاصل اساس البصيرة وان كل ردة فعل لايأتي من دائرة الوعي تلك تصبح وجدانية وكما يقول فرويد ان معظم الحياة الوجدانية لاشعورية اي ان كثيراً من المشاعر التي تعمل داخلنا لاتدخل عتبة الشعور، وان المشاعر الجياشة تحت عتبة الوعي يمكن ان يكون لها تأثيراً قوياً على ادراكنا للاشياء واستجابتنا حتى ولو لم يكن لدينا وعياً بتأثيرها.. وهذا بالضبط ما يحرك في الاساس تلك التجمعات غير الممنطقة التي تأخذ الانفعال الاني وسيلة للتعبير عن المكنون الداخلي سواء أكان شعوراً ام وجداناً، وبالتالي تتمظهر السلوكيات لديه وفق معطيات البيئة التي استقى منها في البدء، وتلك البيئة لم تكن يوماً مهيأة لتقبل الاخر وفق معطياته الحالية لكونها معطيات لاتتواكب بطء صيرورة الاخر، وقلة وعي الاخر، وعدم تفاعل الاخر مع المستجدات الحياتية بكل اشكالها، وفي الاخير تتحول ردة فعله تجاهها الى آفة غير منطقية تفتك بالبنية الاجتماعية داخلياً فتظهر العاهات المزمنة والترقيعات اللاواعية، والصراخات اللاهادفة، فيجد صاحب المنطق اللاواعي نفسه امام تيار جارف، لايمكنه الصمود امامه، فيعمل على ايجاد حلول تنتمي الى جذوره وموروثاته لمواجهة تلك العقبات، ولربما يخرج قوة انفعاله وهمجية ردة فعله بوجه من هو يفترض به وبامثاله التعلم منه، والاستقاء من نبعه الواعي، والاستدلالي الذي يُقَيّم الواقع عبر تجلياته وافكاره وانتاجاته الواسعة على جميع الاصعدة.
ان هذه الافة المزمنة هي التي تجعل من الممكنات اللاواعية حاضرة وبقوة في كل الافعال والانفعالات، وهي نفسها التي تخلق تلك التصدعات الناجمة من عدم التوازن والتوافق بين المقبول واللامقبول، وهي ايضا التي تجعل من الشرخ اوسع والهوة اعمق، فتتجلى الظواهر غير المتمدنة وتطغى على المعالم العمرانية والبنائية وعلى المسارات التكنولوجية الكبيرة، وحتى على السياقات المظهراتية الاخرى التي تجعل الناظر من بعيد يتمناها، ويمجدها، ويتغنى بها، في حين ان الذي يعيش فيها بوعي يجدها مقلدات زائفة لاجوهر لها، ولامناص من تغييرها، لكونها غير قابلة لتقبل الموجود وفق ما هو عليه بوعي، فيصبح مستهلكاً غير منتجاً، مؤخراً غير قابل للتقدم، مقعد متحرك بعشوائية النمطية السلوكية البدائية لايُقَدر الموجود الفعلي صاحب الذكاء المنتج المقدر لذاته، سواء على المستوى الشخصي او الاجتماعي أو حتى السياسي والفكري .. وذلك ما يستوجب علينا البدء في البحث عن المعطيات التي نعمل نحن وفق انماطها سواء السلوكية او الانفعالية او حتى الفكرية الذهنية، كي نستطيع وضع ايدينا على اماكن نشوء العاهات والافات، وبالتالي نبحث وفق برمجية ممنهجة واعية لمعالجتها وذلك للحد من الظواهر غير المتمدنة وغير الحضارية داخل دوائرنا الشخصية والاجتماعية والسياسية والفكرية.

نيسان ـ نشر في 2017-04-25 الساعة 15:05

الكلمات الأكثر بحثاً