اتصل بنا
 

لو كان إمبراطور روسيا قوياً ..!

نيسان ـ نشر في 2018-03-19 الساعة 21:10

نيسان ـ

سألت ذات يوم صديقة روسية: 'عندما أقرأ الأدب الروسي المكتوب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، أسأل نفسي كيف لم ير أباطرة روسيا وأعوانهم في الحكم ذلك كله يصير حولهم دون أن يتحركوا لتغيير أوضاع بلدهم حامين بذلك كراسيهم ومصالحهم. فما رأيك؟' وأجابتني صديقتي: 'ربما لم يروا شيئاً من هذا كله، فهم لم يكونوا يعيشون بين الناس ليعرفوا أوضاعهم.' لم أر الرد كافياً، فباغتتها قائلاً: 'ولكنهم كانوا مثقفين. فكيف لم يقرأوا ما بين سطور كتابات تشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي؟' فنَظَرَتْ إليّ صديقتي باندهاش مَنْ لم يفكر في الأمر من قبل، ثم قالت: 'حقاً كيف ذلك؟'

تحمل هذه الكتابات أفكار الحرية وطموحاتها بقدر ما هي تحمل كذلك سخطاً على الأوضاع القائمة في زمنها ورفضاً لاستغلال الضعفاء. وثمة بصمة واضحة لذلك على وجه التحديد في أعمال تشيخوف الذي تُوُفِي قبل قيام الثورة البولشيفية، التي أتت تماماً على نظام الأباطرة وأعوانهم ومجتمعهم، بما يزيد على عقد بقليل. ولقد كان رجلنا يرمي الديكتاتورية والجهل – الذي هو من أدواتها – بسهام من سخرية وفكر يصعب على المتلقي ألا يفهمها. وفي أعمال قرينيه،دوستويفسكي وتولستوي، قدر كبير من التحليل لأوضاع روسيا في زمنهما والاعتراض عليها. وكان لكل من كُتَّابِنا الثلاثة نكهة محددة وفلسفة خاصة أضفتا على عمله روحاً فريدة. ويعني ذلك أن ثلاثة من أهم مفكري روسيا على مدى ما يزيد على نصف قرن انتقدوا أوضاع بلدهم وترجموا صورتها بوضوح، ومع ذلك لم يعبأ حكام روسيا بأعمالهم وما كانت تحمل من نور أبوا أن يُضيء لهم طريقهم في حكم وطن كان على شفا الانفجار فانفجر في نهايات الحرب العالمية الأولى.

وصحيح أنه كان للحرب العالمية الأولى دور في قيام الثورة البولشيفية، ولكن نظام الإمبراطور نيقولا الثاني، الذي كان يحكم روسيا في ذلك الوقت،جعلها ممكنة بهشاشته وبظلمه. ولقد كان مصير نيقولا الثانيهو أن يكون وأسرته ضحايا إحدى أولى الجرائم البشعة للنظام السوفيتي الجديد؛ حيث قُتِلوا جميعاً بمن فيهم أبناء القيصر الأبرياء،في إعدام وحشي وُصِمَ به تاريخ الاتحاد السوفيتي إلى الأبد. وفي هذه الجريمة لمحة مما يمكن أن يؤدي إليه العنف والقهر سنيناً طوالاً، إذ يتبنى أحياناً المجتمع المقهور ذات العنف وذات الظلم اللذين يُقهر بهما.

أخيراً وَجَدْت إجابة عن سؤالي. فيبدوا أن أباطرة روسيا فهموا ما كان يدور في بلدهم، ولكنهم أرادوا حلاً آخر، حلاً بعيداً عن المنطق الطبيعي الذي ينبغي أن يواجه به الحكام أوضاعاً مترديةً كتلك التي تُحَدِّثُنا بها أعمال تشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي. ويبدو أيضاً أنهم لم يكترثوا بقيمة الفكر الذي كتب عنه الكتاب الثلاثة أو بفكرهم هم، على الرغم من بصمة كلٍ منهم في الأدب والفلسفة. والواضح هو أن حكام روسيا في العهود التي عرفها هؤلاء العباقرة الثلاثة تَصَّوروا أن بإمكانهم مواجهة الفكر بالسلاح والقبضة الحديدية وأن تكميم الأفواه وقصف الأقلام من شأنهما أن يُجَفِّفا منابع الأفكار، وأنه، من ثم، من الممكن أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه من سوء دون إحداث تغيير يُذْكَرُ، مُعتمدين على أن الخوف كفيل بجعل التغيير مستحيلاً.

لقد أخطأ حكام روسيا في تلك الفترة لأنهم لم يدركوا أن السلاح ضعيف في مواجهة الفكر وأن استراتيجية الخوف ونشر اليأس لا تنجح إلا لفترات قصيرة، فكان ما كان.

مات القيصر مظلوماً بعد أن عاش ظالماً. ويقول المثل البريطاني 'من يعش بالسيف، يموت بالسيف.' والعبرة ليست بمن بيده السلاح. فمنطق القوة هو منطق الضعيف. كل ما حدث هو أن نيقولا الثاني فقد سلاحه، فقتله من بيده سلاح. ولو كان نيقولا الثاني حقاً قوياً، كما يوهم أمثاله من هم لهم ظالمون، لكان أمعن في قراءة أدب عصره واستفاد منه في مواجهة مشكلات مجتمعه وغَيَّرَ مما فيه من سوء. ولكن ضعفه حال دون ذلك. فرُب ضعف تراه قوةً.

نيسان ـ نشر في 2018-03-19 الساعة 21:10

الكلمات الأكثر بحثاً